عرض مشاركة واحدة
قديم 28 - 03 - 2024, 02:32 PM   رقم المشاركة : ( 155793 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,462

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




دور بولس في اهتداء القدِّيس أوغسطين

شدَّد الكتابان السابع والثامن في الاعترافات على الدور الحاسم الذي لعبته قراءة بولس في اهتداء أوغسطين. هناك جدال حول الخبر في الكتاب الثامن ونحن لا ندخل فيه(9)، بل نتجاوز خيارًا بسيطًا جدٌّا بين التاريخ والخدعة الأدبيَّة فندرك أنَّ حقيقة الخبر لا تنفي كلِّيٌّا وضعه في شكل أدبيٍّ وصياغته اللاهوتيَّة(10). فالاعترافات بما هي خبر، تكشف في أيِّ حال أهمِّيَّة بولس في الطريقة التي بها فهم أوغسطينُ اهتداءه وتحدَّث عنه.

تمسَّكتُ إذًا بجوع كبير بمؤلَّفات روحك الجليلة، وقبْلَها كلِّها بمؤلَّفات بولس الرسول. حينئذٍ اختفت الصعوبات التي كانت لي في يوم من الأيّام، حين بدا لي هذا في تعارض مع نفسه وفي لاتوافق مع شهادات الشريعة والأنبياء، في مضمون أقواله الأدبيّ. ورأيتُ أمامي، تحت وجه واحد، الأقوالَ المقدَّسة، وتعلَّمتُ أن »أنشد وأنا أرتجف«. فشرعتُ أقرأ واكتشفتُ أنَّ كلَّ ما قرأت من حقيقة عند الأفلاطونيِّين قد قيل هنا، ولكن مع تقييم نعمتك بحيث إنَّ ذاك الذي يرى لا »يفتخر«، وكأنَّه ما نال شيئًا. لا ما يرى بل أيضًا أن يرى، »فما الذي ناله وما أخذه«؟ وبحيث أنت يا من هو هو، يُدفَع إلى أن يراك بل يشقى لكي يمتلكك، وبحيث أنَّ هذا الذي لا يقدر أن يرى من بعيد، يمشي، مع ذلك، في الطريق التي فيها يمكن أن يأتي ويرى ويمتلك. فحتّى وإن ذاق الإنسان »شريعة الله بحسب الإنسان الباطنيّ«، فماذا يفعل »بالشريعة الأخرى التي تحارب في أعضائه شريعة روحه وتجعله سجين شريعة الخطيئة التي في أعضائه؟« ]...[ بعدالةٍ سُلِّمنا إلى الخاطئ العتيق، إلى أركون الموت، لأنَّه أقنع إرادتنا بأن تتوافق مع إرادته، التي رفضَتْ أن نلبث في حقيقتك. فماذا يصنعُ الإنسان في شقائه؟ من ينجِّيه من جسد الموت هذا سوى نعمتك بيسوع المسيح ربِّنا.(11)

إنَّ قراءة الردُّ على الأكاديميِّين(12) تشير إلى أنَّ هدف أوغسطين الأوَّل حين قرأ بولس، كان أن يتفحَّص إذا كان الرسول في تعارض مع »الخير الأسمى« الذي كشفه له الأفلاطونيُّون: وهو تعارض اعتبره أوغسطين مستحيلاً بالنظر إلى طريقة عيش المسيحيِّين. وشدَّد الكتاب السابع من الاعترافات، بشكل إضافيّ، على ضرورة تجاوز انتقاد المانويِّين، الذين اهتمُّوا اهتمامًا كبيرًا ببولس، واعتبروا أنَّه كان في تعارض مع نفسه ومع العهد القديم. فقاموا بقراءة نقديَّة لرسائله، وشجبوا التحريفات التي فيها(13). فهدفُ قراءة بولس، في نظر أوغسطين سنة 386، كان واضحًا: مواجهة مع طروح الأفلاطونيِّين، وإقامة تفسير جديد للتحرُّر من تفسير المانويِّين. وجاءت نتائج هذه القراءة حاسمة: أدرك أوغسطين وحدة الكتب المقدَّسة التي بدت له منذ الآن في »وجه واحد«(14). ما بدا له بولس فقط في تعارض مع الأفلاطونيِّين، بل كشف فيه ما يمكن أن يشفي عجزه لمشاهدة الحقيقة مشاهدة متداومة. وفهم أنَّ عجزه لا يقوم فيه بالتعارض بين طبيعتين، كما قال تفسير المانويِّين لبولس(15)، بل بتناقض أدخله الإنسان في ذاته بقرار حرٍّ، ولا يستطيع أن يحرِّره منه إلاَّ المسيح. إذًا، فسَّر بشكل مختلف الانقسام البولسيَّ بين اللحم (والدم) والروح والخلاص الذي يحمله المسيح.

وهنا لا بدَّ من إبراز دور المسيح المركزيّ: فهو »الطريق« والخلاص. وحين قام أوغسطين بجردة حساب لما وجد ولما لم يجد عند الأفلاطونيِّين(16)، شدَّد، عائدًا إلى فل 2: 6-11 ورو 5: 6 ورو 8:32، أنه إن كان الافلاطونيون أتاحوا له أن يستشفّ الحقيقة الالهيّة، فهم ما عرّفوه بمن هو الطريق: المسيح المتواضع، الذي مات عن الأشرار(17) وهو »الوسيط بين الله والبشر«(18). فمركزيَّة المسيح عند أوغسطين التي تظهر هنا والتي هي ثابتة من ثوابت فكره(19)، يجب أن تكون في علامة بولس في حياته وفي مؤلَّفاته.

ويختم أوغسطين خبر قراءته لبولس في نهاية الكتاب السابع من الاعترافات فيقول: »دخلتْ فيَّ هذه الأمورُ حتَّى الأمعاء بشكل مفاجئ حين كنت أقرأ »أصغر رسلك«(20). فاستطاع حينئذٍ أن يبيِّن في الكتاب الثامن كيف أنَّ امتلاك ألفاظ بولس، لعب دورًا حاسمًا في اهتداء إرادته، وصُوِّرت هذه القراءة الآن على أنَّها خبرة وجوديَّة. فاكتشف أوغسطين نفسه في ألفاظ الرسالة إلى غلاطية: »]...[ حين اختبرتُ بنفسي فهمتُ ما قرأتُ من قبل كيف أنَّ »اللحم (والدم) يشتهي ضدَّ الروح والروح ضدَّ اللحم (والدم)«(21). فبحسب الكتاب الثامن، حصل الاهتداء حين طبَّق أوغسطين على نفسه رو 13: 13-14: »لا للبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد، بل البسوا الربَّ يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات« (اعترافات 8/12: 29). فكما أنَّ بولس أحسَّ بانقلاب بصوتٍ جاء من فوق فاهتدى، صوَّر أوغسطين نفسه وكأنَّه تحوَّل فجأة بعد أن سمع صوتًا آتيًا من البيت القريب(22) يكرِّر: »خذ واقرأ«. عندئذٍ قرأ هذه الكلمات في الرسالة إلى رومة. لا نشدِّد أكثر من اللزوم على التقابل بين خبر أع 9 وخبر الكتاب الثامن، ولكن يمكن القول إنَّ أوغسطين فسَّر سيرته الشخصيَّة على ضوء سيرة بولس. هذا يعني أهمِّيَّة بولس في مسيرة أوغسطين.