منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 25 - 06 - 2014, 11:37 AM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
مدخل إلي التوبة

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
الحياة اليوم أصبحت وادي من القلق. وإنسان اليوم أصبح قَلِقًا أكثر من أيّ وقتٍ مضَى، فالتمدُّن والتحوُّل الذي طرأ على الحياة مُحوِّلًا إيّاها إلى مُجْتَمَع استهلاكيّ قد غيَّر من خصائص السلوك البشري بل وأثر بشكلٍ مباشر على تفكيره وقراراته وقناعاته وأولوياته، ممّا جعل الإنسان مُمزَّقًا بين ما يراه وما يريده. حتّى إرادة الإنسان نفسها قد طالتها ثقافة المدنيَّة والاستهلاك فأصبحت إرادةً هشَّةً مُشوَّشةً مُغيَّبةً مُتلقيَّةً، وكلّ هذا قد آل في نهاية الأمر إلى التغرُّب الكياني الذي استوطن خرائِب قلب الإنسان. حتّى النهضة التي كانت تهدف إلى سعادة وراحة ورفاهيَّة الإنسان أصبحت شوكةً في كيانه لا يستطيع أن ينتزعها، وذلك لأن النهضة أعادت توزيع الأدوار الكونيَّة، فجعلت من الإنسان مركزًا للوجود، عليه أن يُحقِّق بنفسه الاستقرار للكون وللطبيعة ولِذاته، وهو ما يفوق قدراته ويتعدَّى اختصاصاته في هذه الحياة. فتنامَى القلق الوجداني وتسلَّل إلى الكيان وتحوَّل إلى قلق كياني لا يهدأ ولا يتوقَّف، يُحاصِر الإنسان ليل نهار، يُبْعِده عن هويته الذاتيَّة، ويُعمي بصيرته عن معرفة دوره في الحياة والوجود. والقلق بحسب تعريف كيركجارد Søren Kierkegaard (الفيلسوف الدانماركي) هو [التحديد الدقيق للخطيئة]. فالقلق هو نتيجة تجذُّر للخطيئة في كياننا الإنساني وما يَتْبَعه من تغرُّب الإنسان عن الله. فالخطيئة هي توتُّر إنساني ينشأ حينما ننحرف عن مسارنا، ونشوِّه خِلْقتنا بالتحالُف مع العالم والرضَى بمدار الحياة الزمني والتمتُّع الوقتي بلذَّات الحواس الماديَّة. وهذا التوتُّر يستمر طالما الإنسان قانع بمركزيَّته في الحياة رافضًا تسليم دفة القيادة لله مرّة أخرى. وهذا عينه ما وصفه القديس مكاريوس الكبير بأنه السقوط في [فقر الخطيئة المُرعب].
إن مأساتنا المعاصرة هي أننا ابتعدنا عن كوننا صورة الله، محاولين أن نخلق أسطورتنا الشخصيَّة ونرسم لوحتنا الفرديَّة بمنأى عن الله. ولكن ما يغيب عن أذهاننا هو أنه لا مركزيَّة مطلقة للإنسان في الحياة!! إنها مركزيَّة الشيطان المُتخفي وراء تطلُّعات وطموح الإنسان. فحينما نُقصي الله عن مركزيَّة حياتنا فإننا ندعو الشيطان ليتسلَّم القيادة بدلًا منه، متوهمين أنه يمكننا بمفردنا امتلاك حق الاختيار والقرار في الحياة دون تدخل إلهي!!
من هنا ندرك أن الحل الوحيد لنزع فتيل القلق من كياننا الإنساني هو أن نُسلِّم الله حق القيادة ونعيد تتويجه دُفْعَة أخرى على الحياة برُمتها. وهذا هو التعريف الشامل لمفهوم التوبة
رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:39 AM   رقم المشاركة : ( 2 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

رجاء التوبة

إن التوبة لا تُقدَّم بشغف فحسب،

بل وبسرعة أيضًا
(القديس امبروسيوس)
أرجوكم يا أحبّائي
باسم يسوع المسيح

ألاّ تُهْمِلوا خلاصكم
(القديس أنطونيوس)
  • لماذا الخطيئة؟
  • ثنائية الحياة
  • ثنائية التوبة
  • الوعي
  • الخليقة الجديدة
  • التوبة
  • التحوُّل
  • ولا أنا أدينك
  • لطف الله
  • حالة الخطيئة
  • ما بين سقطتين
  • نور الرجاء
  • الحرب للرب
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:41 AM   رقم المشاركة : ( 3 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

لماذا الخطيئة؟


إنه سؤال حائر يتردَّد صداه في قلوب متألمة تشتهي وتشتاق أن تتذوَّق حياة البرّ، بينما يَنْشَب ماردُ الإثم أظافره في كيانها الإنساني الرقيق. سؤال تطرحه النفس في دهشةٍ، حينما ترَى الإرادة حاضرة والشوق جارف والرغبة عارمة في اقتفاء آثار الرب، بينما تُبصِر السقوط والانهزام في واقعها اليومي، وترى طيور الحزن مُحلِّقة على فردوس القلب المفقود والنقاوة التائهة في الصراع الدائر بين البرّ والإثم.

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
ويشتد إلحاح هذا التساؤل، حينما تجد نفسك تسير خطوة على درب النور، وتنفتح بصيرتك في لحظات الصلاة الصادقة على الأبديَّة. وتُعاين في نشوةٍ، الفرح ومجد الحياة المُسْتَتِرة في المسيح؛ ولكنك تصطدم فجأة بحجر عثرة يعترض مسيرتك؛ حجر ألقته يدٌ آثمةٌ على الطريق!! وترى فخًّا مخفيًّا تحت أعشاب النوايا الحسنة والغايات الطيِّبة، فتسقط فيه، وتجد أنه يَهْوَى بك إلى سردابٍ ضيقٍ ومظلمٍ، حيث روح الظلمة يَرِفُّ على عتبته الرطبة الباردة؛ إنه سرداب الخطيئة الذي ينتهي بهاوية الموت!!
وتجد أصوات المحيطين تدعوك لأن تقرأ الكلمة الإلهيَّة، حينما يستولي عليك جوعٌ ونهمٌ للحياة الجديدة، فتُبْصِر بريقًا أخاذًا يَشِع من بين السطور والحروف والكلمات، وفيما تبدأ حبّات الحياة في تكوين أولى براعم الإنسان الجديد، حسب منطق ملكوت الله غير المادي، داخل قلبك، تجد شوكًا يخرج في غفلة النفس عن الوصيَّة، يلتقط براعم الحياة الجديدة، يخنقها وهي بعد صغيرة، قبل أن تشُقّ طريقها نحو النور!!
فإذ بك تُسْرِع لتُلقي بذاتك في مَخْدَع الصلاة، فهناك يدا المُخلِّص مبسوطة على الدوام. فتَسْكُب دموعك بل طِيبَك، وإذ بالفرح والراحة يأتيان ليستقرا بين جدران قلبك، وكأنك خلعت ثوب الأرض، وتسلَّقتَ جبل تابور، حيث ضياء المجد يَغْمُر الحضور، وأسرار الملكوت مُنْكشفةٌ أمام بصيرة الروح.
وحينما تخرج من مَخْدَع الصلاة، تجد لسان حالك يرجو المُخلِّص بكلمات بطرس على جبل التجلي، قائلًا: «يا رب جيد أن نكون ههنا» (مت17: 4)؛ فههنا النور والبهجة والنُصرة والمجد والقوَّة، وههنا الرجاء يتجسَّد واقعًا بحضور الله. ولكن الأرض والزمن والجسد يأبون أن تُحلِّق الروح بعيدًا عن سلطان المادة، فتنزل مُرغمةً من على جبل المجد المُستعْلَن في الصلاة، لتصطدم بحياةٍ منسوجةٍ بخيوطٍ عبثيَّةٍ؛ فالشهوة والسلطة واللذَّة والمال معجونون بتراب الأرض، يُشكِّلون ماردًا يطأ بقسوة إبليسيَّة كلّ روحٍ سابحةٍ في بحار الرجاء غير المنظور. كلّ روحٍ رافعةٌ شِراع وشريعة المحبّة في وجه الحياة.
تذهب إلى الكنيسة، حيث جَمْعُ الرب مُتَّحِد معًا، فترفع صلواتك لتمزجها مع صلوات جسد المسيح التي يُصعِدها الروح الحاضر في الكنيسة إلى الآب، فيُبَارِك الآب على الجماعة المُصلِّيَّة، ويهبها عربون الحياة الجديدة؛ جسد يسوع ودمه. فتتقوَّى النفس وتستشعر وكأنها قد احتوتْ الملكوت!! وأن الخطيئة لن تستطيع أن تتربَّص بها من جديد، وأن الشيطان سيُعْلِن هزيمته أمام مجد الخلاص الذي استقرّ في قلوب مَنْ نالوا سِرّ الحياة المُقدَّم في الإفخارستيا.
ولكنك بعد قليل تجد شهوات الجسد تثور من جديد، ومُغريات الحياة تُعاود إلحاحها، ومطالب الأرض تبدأ مرّة أخرى في نسج ثوبٍ من تراب، لتجعل منه شرنقة تحجز فيها روحك الوثابة نحو الله، لتحرمها من انطلاقها نحو الرب، محبوب النفس وجلَّ مشتهاها.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:42 AM   رقم المشاركة : ( 4 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

ثنائية الحياة

ووسط كلّ هذا التناقض الذي يحيط بالنفس، تتساءل: أما من حَلٍّ للخطيئة؟ أما من انكسار نهائي لإبليس وأعوانه؟ أما من نورٍ أبدي يُبرِق، ليصير هو سِمة الحياة التي لا تَقبل الظلمة؟؟
وفي وسط حيرتك وترقُّبك إجابة لتساؤلاتك، تجد صوتًا خافتًا هادئًا يتردَّد صداه في أعماقك القصيَّة، صوتًا يقول لك: «إن مُدَّة كلّ أيام الأرض، زرع وحصاد، برد وحر، صيف وشتاء، نهار وليل، لا تزال». فإذ بك تنتبه أن تلك الكلمات ليست سوى الكلمات التي وردت بفم الرب في سفر التكوين (8: 22). إنها الكلمات التي خَتَمَ بها الرب على قصة الطوفان بعد أن قرَّر أن يحتمل تغرُّب الإنسان عنه في الشَرِّ، وأنه لن يعود يفنيه، لأن نسيجَ الشَرِّ قد توغَّل في كيان الإنسان يوم سقط. وأصبح الإنسان يحيا بين قطبي النور والظلمة. وصارت الحياة كلها ثنائيات تتجاذب البشريَّة؛ ثنائيات ما بين:

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
السقوط والقيام،
الابتعاد والاقتراب،
الانكسار والانتصار،
الحزن والفرح،
الضيق والسعة،
الأنين والبهجة،
الموت والحياة،
الجسد والروح،
الأنا والآخر،
الفرديَّة والشخصانيَّة،
الكينونة والتملُّك،
المحدود والمُطلَق،
العدم والوجود،
الزمن والأبديَّة.
إنها الحياة النسبيَّة التي نحياها، التي هي مزيجٌ من متناقضاتٍ. فالتراب يجاور الروح في الكائن البشري. إنها واقعيَّة الحياة التي يُريدنا الروح القدس أن نعيها ونتعلَّمها. فالحياة ليست أُحاديَّة الجانب؛ فهي ليست ماديَّة مُتكثفة فقط، كما أنها ليست روحيَّة بسيطة فقط أيضًا. إنها مجموعة من الثنائيات. وما يُشكِّل توجُّهنا الإنساني في مسيرتنا بين ثنائيات الوجود هو ميلنا صوب أحد طرفي الحياة، وصراعنا للتحرُّر من الطرف الآخر.
لذا يجب أن ننتبه إلى أنه بعد السقوط الذي أفسد الطبيعة كلها، دخلت الخطيَّة إلى صميم المادة المخلوقة. لذا فإن وهم النقاوة البِلُّوريَّة التي لا تشوبها شائبة هو حلمٌ بعيد المنال طالما أننا أسرى الزمن والتراب. كما أن الله لا يطالبنا بالنتائج ولكنه يطالبنا بالحركة والدفاع عن ثوب الخلاص.
فالنقاوة التي يجب أن نسعَى إليها هي وليدة صراع مستمر، آني، متواصل. وهذا الصراع هو الذي يستقطِب هبات الروح المجانيَّة لنا، خاتِمًا إياها بالنقاوة والطُهر. لكن يبقَى هبوب نسيم الروح على أعتاب قلوبنا مرهونًا بيقظتنا وصراخنا ورجاؤنا في نوال المعونة والخلاص، ويبقَى نداؤنا الذي ينطلق، ليل نهار، من صميم قلوبنا المترقِّبة شعاعًا من نور، ومن وسط غيمات شتاء الخطيئة القارس، هو: [هلمّ تفضَّل، حِل فينا، وطهِّرنا من كلّ دنسٍ] (من قِطَع الساعة الثالثة / صلوات السواعي). الروح هو مُطهِّرنا من الدنس والخطيئة وليس جهادنا. ألاَّ نُطفِئ الروح داخلنا يبقَى هو غاية كلّ جهادٍ ضدّ أعداء النور. إذًا مطلب الله منَّا ليس هو التخلُّص من الخطيئة ولكنه الصراع ضدّ الخطيئة، بينما التخلُّص من الخطيئة هو الثمرة التي يقتطفها لنا الروح من شجرة الحياة التي لا يموت آكلوها.
من هنا يمكننا أن نعرف أن سِرّ انكسار الخطيئة يكمن في يقظتنا إِبَّان الصراع على الدوام ودئبنا على التخلُّص من كلّ خطيئة عَلِقَت بثوبنا النقي الذي لبسناه يوم معموديتنا. فلا نقاوة بدون صراع مع الظلمة، وذلك لأن نقاوتنا مُهدَّدة على الدوام من أعداءٍ لا ينامون ولا يهدأون ولا يضجرون من كثرة الهزائم.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:44 AM   رقم المشاركة : ( 5 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

ثنائية التوبة

إن التوبة ذاتها هي إحدَى ثنائيات الحياة. فهي تعبير عن الميل والصراع في آنٍ واحد. إنها ميلٌ لمشورة الروح بالعودة إلى الله، كما أنها في ذات الوقت صراعٌ ضدّ خيوط الشيطان التي تريد أن تُعرْقِل تلك الحركة نحو الله. إنها تُمثل ثنائيَّة داخليَّة في قلب الإنسان؛ فالاقتراب من مدار النور الإلهي هو في نفس الوقت إظهار مُؤلم لحالة النفس المُتدنِّسة بالخطايا والتعدّيات، تلك التي لَحِقَت بها من جرّاء الخضوع للعالم وقانونه المادي. فالنور وحده هو المُخبِّر عن الظلمة. وهذا ما يجعلنا في حالة نِزاع دائم بين رجاء الاقتراب ورهبة الاقتراب، شوق اللقاء وخَشيْة اللقاء!!
وعن ذلك النزاع الذي تجوزه النفس حينما يَبرُق نور الله في أُفقِ الروح، يُحدِّثنا صفروني سخاروف (الراهب الروسي) Софроний Сахаров في كتابه (معاينة الله كما هو)، قائلًا:

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
... يُصبح الإنسان مُمَزَّقا؛
من جهةٍ، هو غارق في هلعه
من رؤية ذاته على ما هي عليه من قباحات،
ومن جهةٍ أخرى، فهو يشعر بفيض قوَّةٍ لم يعرفها من قبل،
ناجمة عن رؤية الإله الحيّ...
كما يكتب كاليستوس وير Kallistos Ware في كتابه (الملكوت الداخلي)، قائلًا:
التوبة المُفعمة ألما وفرحا في آنٍ معا
تُعبر عن التوتُّر الخلاَّق
الذي طالما طبع الحياة المسيحية على هذه الأرض.
إنَّ تلك الثنائيَّة الضروريَّة التي تُشكِّل توبتنا هي بالفعل توتُّر خلاَّق، لأنه من بين ألم رؤية النفس على حقيقتها، يَبْرُق النور الإلهي عليها، فتذوب في نشوة التلاقي مع الله، مُتناسيَّةً ذاتها وحالتها وحقيقتها. تلك هي أولى خطوات مغادرة الذات باتجاه الله، وهو ما يضمن النجاة من فِخاخ اليأس المُتربِّصة بالخاطِئ حينما يُعْلِن عودته لأحضان الله الأبويَّة من جديد.
إن مشاعر التوبة تتأرجح دائمًا ما بين قطبيْن، وهما:
* قُطب النور (الحاضر): وهو يُمثل فرح النفس بعودتها إلى الله.
* قُطب ظلمة الماضي: وهو يُمثل ألم النفس لما سببته لقلب الله من جراح حينما أخطأَت.
وإن كان قُطب النور في التوبة هو الذي يسبي النفس في نشوة اللقاء فتنسَى حقيقتها في غمار دفء وحنو الله، إلاّ إنَّ قُطب ظلمة النفس الماضيَّة هو ضمانها حتّى لا تستعلي حينما يراودها هاجس التفوُّق الروحي والتميُّز الحياتي عن الآخرين. فالنور الإلهي الحاضر يُحصِّن النفس ضدّ اليأس، كما أن ظلمة الماضي الذاتيَّة تحمي النفس من الاستعلاء الروحي والكبرياء الذهني.
إنه نفس مفهوم الحبّ/ الخوف (الرهبة) الذي به نلتقي الله. إنْ تلاشَى الخوف، ارتخت إرادتنا في تطبيق الإنجيل وفي الصمود أمام الخطيئة، وإن تقلَّص الحبّ تحوَّلت مسيحيتنا إلى وثنيَّة جديدة ولكن بمفهوم سلوكي أكثر رُقيًّا. وذلك لأن جوهر الله هو المحبّة، وإن اختفت المحبّة تحوَّلنا إلى عبادة إله آخر أبعد ما يكون عن الثالوث الحبّ.
ويرى القديس أغسطينوس أن ثنائيَّة التوبة الداخليَّة ما هي إلاّ حبّ الله وبُغض الذات بآنٍ واحد، لذا يقول مُصَليا (الاعترافات/ الجزء الثاني):
آه ! ما أحسن الاعتراف بين يديك،
لأني عندما أُقر لك بخطاياي،
تُرسل إليَّ رأفاتك، شعاع نورك،
فأرتد خجلًا من نفسي،
وأراني مُستحقا البُغض،
وأراك مُستحقا الحبّ،
وفيك يجب أن أضع أفكاري وعواطفي وملذَّاتي.
من هنا كانت الثنائيَّة المُكوِّنة لرداء التوبة هي ضرورة بما تحمله من بهجةٍ وما تحمله من ألمٍ لذا فهي توبة مُفعَمة ألمًا وفرحًا بحسب توصيف كاليستوس.
ولكن هل هذا يعني أنه يجب علينا قبول حقيقة وجود الخطيئة في حياتنا؟! بالطبع لا. ولكن يجب أن نُدْرِك مدار الصراع الذي نجتازه بشكلٍ لحظيٍّ، وأيضًا طبيعة الأعداء المُتَربِّصين بنا، وكذلك طبيعة الصراع نفسه، بل وطبيعة ذواتنا نحن أيضًا، حتّى يمكننا القيام بعد الانطراح والصمود بعد السقوط والانتصار بعد الانكسار. يجب أن نُدْرِك أن الخطيئة تُحاصِر وجودنا الترابي بجُملته، تتسلَّق جدران القلب لتجد منفذًا للدخول والإنبات، تتلمَّس لحظات فتورٍ أو مللٍ أو تراخٍ أو حيرةٍ أو ضعفٍ لتَدْخُل وتُقيِّد النفس والروح معًا بقيود بها رائحة الجحيم والموت. والإنسان مائل للشَرِّ منذ حداثته كما أعلن الكتاب، لذا فإن الخطيئة لم ينج منها شخصًا على مرِّ العصور!!
يبقى أن نُؤكِّد مُجَدَّدًا أن ما يطلبه الله منَّا هو العمل وليس النتيجة، الجهاد وليس الخلاص.
لقد تحدَّث القديس بولس أيضًا عن نزاع ثنائي داخلي؛ إنه النزاع بين الإرادة والفعل، بين الاشتياق القلبي والجمود الحياتي. وهو ما نجده حينما نُطالع رسالته إلى أهل رومية، التي يُدوِّن فيها أنينه بلسان كلّ البشريَّة المرتديَّة لِباسًا من لحمٍ ودمٍ، قائلًا: «لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحُسنَى، فلستُ أجد» (رو7: 18).
إن هذا الصراع بين الإرادة المُترجيَّة أبديَّة النور ولِباس الفضيلة، من جهةٍ، وبين العمل المُلوَّث بالتعدي والخطيئة، من جهةٍ أخرى، هو بالفعل مِحْوَر الجهاد الإنساني. إن النُصرة تَكْمُنُ في الجهادوالنعمة دورها أن تُتوِّج هذا الجهاد بالنقاوة والتحرُّر من الخطيئة. لذا فإن الانفلات من حبائل الهاوية هو نتيجة شراكة بين جهادك المُستمِر، وبين النعمة التي تُعِين وتُكافِئ. لذا لا تجعل من الضعف والسقوط مُثبِّطًا لعزيمتك، يجب ألاّ تتوقَّف عن الصراخ إلى الله من أجل الحصول على نعمة التحرُّر، وطالما قلبك يصرخ طالما أنت مُنتصِر. فقط الهزيمة في توقُّفك عن الصُراخ والجهاد، والرجاء في النُصرة.
ولعلّ هذا المفهوم نجده بوضوح في الصلاة التي يتلوها الكاهن قبل التقدُّم للخدمة الليتورجيَّة الخاصة بالإفخارستيا، إذ يقول (صلاة الاستعداد / قُدَّاس القديس باسيليوس):
أيها الرب العارف قلب كلّ أحدٍ،
القدوس المُستريح في قديسيه،
الذي بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا،
أنت يا سيد تَعْلَمُ أني غير مُستحق ولا مُستعد ولا مُستوجب لهذه الخدمة المُقدَّسة التي لك،
وليس لي وجه أن أقترب وأفتح فاي أمام مجدك المقدَّس،
بل ككثرة رأفاتك اغفر لي أنا الخاطِئ...
إن تلك الصلاة الممتلئة بالانسحاق الشديد أمام المجد الأقدس، هي بالفعل لسان حال كلّ التائبين الذين لم يَصِلوا إلى التحرُّر الكامل من الخطيئة، ولكن صرختهم الدائمة والمُسْتَمِرة هي: [ككثرة رأفاتك اغفر لي أنا الخاطِئ]. وتلك الصرخة وحدها تحمل على جناحيها سِرّ نُصرة الخاطِئ، على الذات، التي تريد أن تتبرَّر، وعلى الشيطان، الذي يريد أن يَخْدَع النفس ببرِّها تارةً، وبعدم جدوى الوقوف أمام الله تارةً أخرى. إنها الصلاة التي تُهيِّئ الإنسان للوقوف أمام الله، إذ أنها تكسوه بثوبٍ منسوج برقة وعذوبة الاتضاع.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن الثنائيات التي تُلاحقنا كلّ يومٍ وكلّ ساعةٍ بل وكلّ لحظةٍ في حياتنا، هي السبب الرئيسي والمُباشر لنمونا ونضوجنا. فلولا الأسود لما كان الأبيض رمزًا للطُهر والنقاء، ولولا الظلمة لما كان ابتهاج الطبيعة بيقظة النور، ولولا القتال والصراع لما احتفل البشر بالانتصار. فالتتويج لن يأتي إلاّ عقب القتال. كما أن الطَعْم الحقيقي للنُصرة يَكْمُن في لذَّة الجَهد المبذول أثناء الصراع. إنه التعليم الذي كان يحرص القديس موسَى الأسود أن يُلَقِّنه لكلّ مَنْ كان يأتي إليه شاكيًا ضراوة القتال، إذ اعتاد أن يقول:
لو لم تكن حروب وقتال،
ما كانت فضيلة
فالفضيلة إذًا هي نِتاج الصراع المُحْتَدِم بين قطبي المادة والروح، حينما يميل الإنسان بالروح، ليسمو عن جذب المادة المُستمر والدائم. كما أن الإكليل الختامي لن يستقر على رؤوسٍ لم تكتسِ بالعرق والجهد في سعيها اليومي. وكذلك الغلبة لن تكون إلاّ لمن استطاعوا أن يقولوا [لا] للعالم الحاضر الموضوع في الشرير.
إن هذا الصراع بين المادة والروح هو في حقيقته صراع تجري أحداثه في العالم الإنساني الصغير microcosmos، داخل الكيان البشري، بين خواطر إبليسيَّة تتسلَّل، في ظلمة الضمير، لتجذِب الإنسان تجاه الهاوية، ولتتجسَّد في شكل خطيئة، وبين نفحات الروح القدس التي تبغي إشعال القلب الذي قاربت فتيلته على الانطفاء، ليُبْصِر من جديد نور الحياة. وهذا الصراع في عقل وقلب الإنسان يجعله في حالة نزاع دائم، بين قوَّة هائلة تجتذبه لمن هو غير منظور، بحواس الجسد، ولكنه مرئي ببصيرة الروح النقيَّة، وبين قوى أخرى تستخدم الحواس لتستميله نحوها.
وهذا النزاع الإنساني لا يتوقَّف، ولكن الإنسان، بمضي الزمن، يصبح أكثر تبصُّرًا بالحقيقة، وأكثر إدراكًا للخدعة التي تقبع خلف الغريزة المُتسربِلة بثوب اللذَّة، وذلك حينما ينمو وعيه الإيماني من خلال خبرات يوميَّة متلاحقة. وبقدر ما يميل الإنسان صوب النور بقدر ما تضعف همسات الظلمة التي تجتذبه. وبقدر ما يرتضي في المقابل بوجود قشور الخديعة الشيطانيَّة على ناظريه، تشتدّ حبائل الظلمة حول عنقه، فيختنق، ويصبح أسير حالةً من انعدام المعنَى والقيمة والغاية، ويصبح أقرب للهاوية منه للملكوت.
يكتب لنا باولو كويلهو Paulo Coelho (الروائي البرازيلي) في روايته (محارب النور) Guerreiro da Luz عن تلك القوتيْن اللتيْن تجتذبان النفس، قائلًا:
يعرف محارب النور أنَّ الملاك والشيطان
يتنافسان على مقبض سيفه،
يقول الشيطان: «ستضعف.. لن تعرف متى؟ أنت خائف»
ويقول الملاك: «ستضعف.. لن تعرف متى؟ أنت خائف»
المحارب مندهش؛ فالملاك والشيطان تفوها بكلامٍ واحد!!
عندها يتابع الشيطان: «دعني أساعدك...»
ويقول الملاك: «سأساعدك»
في هذه اللحظة، يفهم المحارب الفرق.
فقد تكون الكلمات واحدة، ولكن الحليفين مختلفين.
فيختار حينئذٍ يد الملاك.
إن نصرتنا مَرْهونة أولًا وقبل كلّ شيءٍ بوعينا بالصراع وبأطرافه وبوسائل النُصرة وأسباب الهزيمة. فلقد استخدم الشيطان كلمات الروح لخداع المسيح، ولكن وعي المسيح بقصد الروح من تلك الكلمات صار هو سِرّ انكسار الشيطان في تلك الحرب التي اتَّخذت من الجبل مكانًا شاهدًا عليها. والوعي يعني تدريب الحواس وشحذ المهارات الروحيَّة القتاليَّة، بالصلاة وكلمة الله والافخارستيا... ولكن قبل كلّ شيء؛ التسربُل بالتواضع كما بالجسد.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:45 AM   رقم المشاركة : ( 6 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

الوعي

إن وعينا بتلك الثنائيات التي تُحيط بنا، يجعلنا أكثر إدراكًا للواقع الذي نحياه، وأكثر تقبُّلًا لاحتمالات التعثر والسقوط. وبقبولنا طبيعتنا البشريَّة المُعرَّضة للخطأ، سنُصبح أكثر قوَّة وقُدرة على النهوض دُفعةً أخرى. فالذي يجعل من الصعب على شخصٍ ما، القيام مرّة أخرى بعد السقوط، هو شعورٌ كاذب بالاستقرار والثبات، والثقة في طبيعة بشريَّة عتيقة قد تثور وتزأر في أيِّ وقت، ممَّا يُشكِّل صدمةً عنيفةً، حينما يجد أن ثباته كان حُلْمًا مرَّ سريعًا، وأن نقاوته قد طالتها أيدي الخطيئة. لذا ينصح القديس بولس قائلًا: «مَنْ يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط» (1كو10: 12).
ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم:
عندما يَسْقُط المُتكبِّر يندهش ويندم ويفقد الرجاء،
أما المُتضع فهو يعرف ضعفه،
ولا يندهش من تصرفٍ أو سلوكٍ،
بل يندم برجاءٍ حيٍّ في رحمة الله.
لذا فمن الضروري وضع هامش للخطأ والتعثر في الحياة التي نحياها، ممَّا يَهِبنا القُدرة أن نتجاوز لحظات السقوط سريعًا، ونتصرَّف بإيجابيَّة بعد كلّ فشلٍ قد ننحدر فيه أثناء صراعنا اليومي المُحْتَدِم.

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
إن قبولنا لذواتنا ليس تصالُحًا مع الخطيئة ولكنه وعي بإمكانيَّة السقوط، كبشرٍ، نحيا في خيمة إنسانيَّة. ولكن هذا الوعي لا ينبغي أن ينفصل عن سعي دؤوب لتغيير تلك الحالة بلمسات النعمة. فكثيرًا ما يُجاهد البعض ولكن بثقة في الثبات دون معرفة هشاشة النفس البشريَّة التي تحيط بها حيَّات وأفاعي الخطيئة ليل نهار، وهي تتربَّص بها لتلدغها حينما تسهو وتغفو. كما أننا نجد أن هناك قطاعًا آخر من البشر يدركون طبيعتهم الخاطئة ولا ينهارون أمام قسوة السقوط، ولكنهم في المقابل، لا يعملون على تغيير تلك الحالة!! فيصبح وعيهم استكانةً وتَصالُحًا مع الظلمة.
لذا فمن الضروري أن يمتزج الوعي بالضعف الإنساني مع العمل والسعي للقيام والتوبة والتجدُّد -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى-حتّى تكون التوبة مدفوعة بقوَّة الرجاء الذي يُوفِّر على الخاطِئ جهادًا طويلًا في سعيه للنهوض دُفعةً أخرى.
وفي كلّ مرّة تأتي غيمة السقوط لتُحيط بك، وتُبدِّد شوقك للنقاوة؛ يجب عليك أن تقف وتردِّد في داخلك:
إنها الطبيعة البشريَّة الخاطئة التي تعمل فيَّ للموت،
إنه الجسد الشقي
الذي يُكبِّل روحي الثائرة على العالم المادي،
إنها بقايا لحظات من ذكرى سقوطٍ أليمٍ
قد طال أبويَّ آدم وحواء في الماضي السحيق،
ولكنني...
سأنهض بنعمة الحياة الجديدة
التي أشرقت لي في المسيح يسوع،
سأعاين النور المُتسلِّل من بين صخور الظلمة،
وإن سِرْتُ في وادٍ يغطيه ظل الموت،
فلن أخاف ولن أرتعب ولن أخور ولن أستسلم؛
فلتجرحني سهام الأعداء كما تشاء
ولكننى لن أترك المعركة وأختبِئ،
فستكون جراحاتي هي الشاهد على جهادي
يوم استعلان مجد المسيح.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:48 AM   رقم المشاركة : ( 7 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

الخليقة الجديدة

إننا نسير في الحياة بآنيتنا الفخاريَّة الهشَّة؛ التي هي أجسادنا الترابيَّة وطبيعتنا المحدودة، ولكن تبقَى اشتياقات قلوبنا هي سِرّ صمودنا أمام قسوة الحياة. ولكن الاشتياق يجب أن يصير عملًا، والعمل يجب أن نتوجَّه به لله.
فالمسيحيَّة لم تأتِ لنا بطبيعة خارجيَّة جديدة بدلًا من الجسد المادي لتُقحِمها في كياننا الإنساني، فمدار وجود المسيحي هو نفس المدار الزمني والمكاني الذي تدور فيه باقي الخليقة. فنحن كسائر البشر، لنا ما لهم وعلينا ما عليهم، بحسب الطبيعة الماديَّة؛ «عالمين أن نفس تلك الآلام تُجرَى على إخوتكم الذين في العالم» (1بط 5: 9). ولكن الخليقة الجديدة التي تحدَّث عنها القديس بولس ليست سوى صورة الله المنقوشة في جوهر الكيان الإنساني والمُتطلِّعة إلى وجه المسيح، فقط حينما تتنقَّى تلك الصورة من شوائب الخطيئة بدم العهد الجديد، لتعود نقيَّة بهيَّة كسابق عهدها قبل السقوط، تعكِس الأصل الإلهي المُضِيء الذي صُوِّرَتْ على شاكلته.
إن الخليقة الجديدة في المسيح هي سِرّ انفتاح بصيرة الإنسان، فهي التي تجعله يستطيع أن يُبْصِر القيامة خلف رداء الموت. فحبَّة الحنطة في نظر المسيحي ليست بذرة صغيرة مُهْمَلة ولكنها شجرة كبيرة مُثمِرة!! وهذا هو سِرّ الحياة الجديدة. إنه تجديد البصيرة للحياة لنرى كلّ شيءٍ بأعين الله الساكن فينا. وهكذا نجد أن الألم في حياة المسيحي هو إكليل مجدٍ وشهادة حيَّة، فقط حينما يُخْتَم بخاتم الصبر والرجاء في الرب. وأيضًا نرى السقوط هو دَفْعَةٌ للقيامة بقوَّة أعظم، أو بحسب التعبير الخالد للقديس يوحنا ذهبي الفم؛ هو سِرّ [العودة بقوَّة أعظم]. وهكذا الخطيئة في القاموس المسيحي، بالرغم من كلّ قُبْحَها وسلبيتها التي تُلقي بالضوء على الانهزام في حياة الإنسان، نجدها تؤول بالتوبة إلى اختبار!! اختبار نعاين فيه وجه الله الرحوم.

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
فالخطيئة إذًا، هي التعبير عن البشريَّة الملوَّثة بخبرة معرفة الخير والشر، بالممارسة والعمل والسقوط. ولكنها من جهةٍ أخرى، قد تتحوَّل إلى فرصة ثمينة لنُعاين من خلالها عمل الله وحُبَّه المجاني، وخلاصه الذي لا يتوقَّف على حالتنا الراهنة، ولكنه ينهال علينا بحسب سخاء الرحمة التي في قلب الله من جهتنا، ولكن هذا البُعد نتلمسه في حياتنا فقط حينما نبدأ بالتوبة.
فالخطيئة بدون توبة هي قبول دينونة، ولكنها بالتوبة هي معاينة النعمة والمجانيَّة في كلّ تعاملات الله معنا «وأنتم الذين كنتم قبلًا أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن، في جسم بشريته، بالموت، ليُحْضِرَكم قديسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه» (كو1: 21 22).
وعن هذا المفهوم يكتب الأب هنري بولاد في كتابه (السلام الداخلي) قائلًا:
النعمة تحتاج إلى نافذةٍ تمر منها إلى قلب الإنسان،
وقد يكون جرح الخطيئة هو تلك النافذة
التي تسمح للنعمة بالنفاذ إلى أعماقنا،
حتّى تروي أنفسنا التي تُشْبِه الأرض الجافة...
ولنا في مَثل العشار نموذج لتلك الحالة الفريدة لعمل النعمة؛ فجِراح الخطيئة قد أحْنَت نفس ذلك العشار بالحُزن، فتدفَّق الأنين من قلبه كنهرٍ جارٍ، وتناقل الفضاء صدَى قرعات صدره التي زلزلت السماء، وخرجت تلك الكلمات البسيطة التي فتحت الباب أمام النعمة للعمل والتبرير والغفران.
«وأما العشَّار فوقف من بعيد
لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء
بل قرع على صدره قائلًا:
اللهم ارحمني أنا الخاطِئ» (لو18: 13)
إننا في مطالعتنا للعهد الجديد نجد أن الله قد جاء في الجسد من أجل الخطاة والأثمة والساقطين، وليس من أجل الأبرار والكاملين، كما أعلن هو قائلًا: «لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة» (مت 9: 13). من هنا ندرك أن الأبرار في أعين أنفسهم هم أبعد الخلائق عن معاينة وجه الله الرحوم وتذوُّق النعمة المجانيَّة. ولنا في تبكيت الرب للكتبة والفريسيين وقادة الشعب أكبر دليل على خطورة البرّ الذاتي الذي كان موضع انتقاد الرب الدائم والمستمر. فالخاطِئ التائب وحده هو الذي يتذوَّق الرحمة حينما يستعطف صلاح الله لانتشاله من مستنقع الخطيئة. حينما يدرك إنه لا شيء في مواجهة الخطيئة ومواجهة قوات الظلمةولسان حاله يقتبس من كلمات القديس أنطونيوس، حينما كان يواجه إبليس وجنوده، فيقول: [أنا أضعف من أصغركم]. فالضعف الذي يُعْلِنه القديس أنطونيوس هو ضعف الذات بقدراتها الإنسانيَّة في مواجهة الظلمة، ولكن هذا الضعف يتحوَّل إلى قوَّة نُصرة هائلة حينما تتدخَّل النعمة وتقود النفس في هذا الصِراع، لتصبح المواجهة بين الله والشيطان. حينئذ تَفِلّ كلّ قوات الظلمة من أمام وجه الرب المدافع عن الصارخين إليه ليلًا ونهارًا.
ويُدوِّن لنا القديس أثناسيوس في كتابه (حياة الأنبا أنطونيوس بقلم البابا أثناسيوس/ فصل10،11) تفاصيل الصراع بين أنطونيوس والشياطين، والذي انتهَى بتدخُّل مباشر للرب، فيقول:
وهكذا إذ تطلع (أنطونيوس) إلى السقف إلى فوق
رأى السقف كأنه قد انفتح،
وأشعة من نورٍ نازلةٍ عليه،
وللحال اختفت الشياطين،
وانقشع ألم جسده، وعاد البناء سليمًا...
ويضيف القديس أثناسيوس، قائلًا:
وفي اليوم التالي خرج أشدَّ مَيْلًا لخدمة الله.
آه، يا ليتنا نُدْرِك عِظَم النعمة والمعونة التي تُحيط بنا، يا ليتنا نُدْرِك مجد النُصرة التي تترقَّب صرخات قلوبنا لتستحضِر الله في قلوبنا، حينها فقط لن تُخيفنا الخطيئة ولن تُقيِّدنا في قضبان اليأس الحديديَّة، لأن أبصارنا ستظل مُعَلَّقة بالسماء، تترجَّى المعونة وتبتهج بها. لن يستطيع جنود الشر أمام الأعين المُحدِّقة في غير المنظور سوى أن يَفِروا مهرولين نحو هاوية مصيرهم، وهم يَجُرون أذيال الخيبة والهزيمة.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:49 AM   رقم المشاركة : ( 8 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

التوبة


من الأمور التي يجب علينا أن ننتبه لها، هي أن السقوط في خطيئةٍ وليدة الضعف ليس كالسقوط في خطيئة ناتجة عن قساوة واستهانة. وأن العناد في الخطيئة يُفْقِد الروح قدرته!! على التدخل لإنقاذ ذلك الإنسان. ولنا في مَثل فرعون، الذي عاند دعوة الله لشعبه إلى البريَّة، شهادةً على عنادٍ إنسانيٍّ يمكنه أن يصل بالنفس إلى الغرق والهلاك.
ولكن على الجانب الآخر، حينما يجثو الخاطِئ أمام الله، وليس في فمه كلمات، لا يدري ماذا يفعل، فحينما تكلَّم قبلًا كانت كلماته وعودًا وعهودًا، ولكن الخطيئة قد أذابت كلّ تلك الوعود وطرحت النفس عارية، في خزيٍّ وألمٍ، في محضر الله. ولم يتبق لذلك الإنسان إلاّ أنْ يرفع عينيه إلى السماء؛ أعين تمتزج فيها الحيرة والندم مع الشوق. تصير نظراته التي يُرْسِلها إلى الأعالي هي صلاته الصامتة التي تعكس حالته وحيرته ورجاءه «ونحن لا نعلم ماذا نعمل؟ ولكن نحوك أعيننا» (2 أخ20: 12). هنا لا يملك الله أمام تلك النفس التي تريد ولا تستطيع، إلاّ أنْ يُشدِّد ضعفها ويُعزِّي قلبها الكسير بل ويمنحها الغفران. فالله لا يحتمل قلبًا مُنسحِقًا وعينًا مُنكسرةً وعَبَراتً مُتساقِطةً في رجاء الفجر الآتي.
إنها التوبة التي تفتح كُوى السماء لتأتي لنا بالمطر الروحاني (النعمة) فتبتل أرض الروح الإنسانيَّة المقفرة وترتوى بعد عطشٍ وحدبٍ.
والتوبة الكتابيَّة ليست حالة من الحزن، بقدر ما هي لحظة انفتاح على حقيقة الحياة. ترى فيها النفس، الحق والباطل، تُبصِر من خلالها، النور والظلمة، تضع يدها على الهوَّة التي تفصل بين مجد السماويات وملذَّات الأرضيات.
إنها نظرة إلى فوق برجاء حي مُتجدِّد لا تُعرْقِله أثقال الخطيئة ولا يُوقِفه هول التعديات، لأنه رجاء في ثالوث الحبّ. إن مثل تلك النظرة إلى أورشليم العليا تجتذب الإنسان للجمال غير المادي؛ جمال الحق والنور والقيامة.

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
كما أن التوبة ليست موقفًا سلبيًا نذرف فيه الدموع على اللبن المسكوب، دون التحرُّك للأمام. إنها ليست لحظات ساكنة نقضيها في التحسُّر على الماضي المُنْقضي، ولكنها حركة دؤوبة تُشعِل النفس لتغيير موقفها من الحياة بأبعادها الثلاثة (الذات والآخر والله).
إنها لحظات فرح وسلام وإن كان تعبير الجسد عنها دموع وأنين. فأنين وألم وأحزان التوبة مُبْهِجة ومُفْعَمة بالسلام القلبي. لذا عبَّر الرسول بولس عن هذا الحُزن المُبْهِج قائلًا عنه إنه: «الحُزن الذي بحسب مشيئة الله» الذي «يُنشِئ توبةً لخلاصٍ بلا ندامة» (2كو7: 10). فتوبة الخلاص لا ترتكز على الندامة، بل على الحُزن الفعال الإيجابي المُنْطلِق إلى الأمام بعمل روح الله.
وإن كان تعريف الخطيئة كما كتب كيركجارد Sّren Kierkegaard هو القلق، نجد أن ميرالوت بورودين في كتابها (سِرّ عطيَّة الدموع في الشرق المسيحي) تكتب أن [الحُزن المسيحي لا يقلق لأنه لا ييأس].
إن الاختلاف بين الحُزن الناتج عن الخطيئة، والحُزن المسيحي الذي بحسب مشيئة الله، هو أن الأوَّل حُزنٌ قَلِق بينما الأخير حُزنٌ لا يعتريه القلق لأنه مُمتلِئ بالسلام، نتيجة الثقة في صلاح الله وغفرانه. لذا فإن الحُزن المسيحي لا يقود لليأس كما أشارت ميرالوت. فاليأس هو فقدان الثقة، بينما التوبة هي استعادة الثقة دُفعةً أخرى.
إن تلك النظرة الجديدة تضع الإنسان أمام محك اختيار؛ فأمجاد الأبديَّة قد انكشفت للنفس كعربون في لحظات صفاء الروح. وفي المقابل تقف خبرة ملذَّات الحياة الحاضرة، المُلوَّثة بنكهة الموت، مُنْتصِبة بجموحها وصخبها. فإن اختار الإنسان الحياة التي مركزها الله، انطرحت خطاياه في بحر النسيان، لتُلْقَى في العدم الدهري وتتلاشَى. وإن اختار اللحظة الحاضرة وليدة اللذَّة وأسيرة اللذَّة، تثقَّلَت نفسه بالأكثر بأغلال الخطيئة وهَوَتْ إلى دركات العالم المادي الذي يتمركز حول رئيس العالم الموُكَل بظلمة هذا الدهر. فالتوبة إذًا هي خيار يتوقف عليه وجهتنا.
وعن هذا المفهوم الخاص بالتوبة، يُحدِّثنا كاليستوس وير Kallistos Ware، في كتابه (الملكوت الداخلي) قائلًا:
إنها (التوبة) ليست مجرد التأسُّف على الماضي،
بل تغيير جذري لنظرتنا،
وطريقة جديدة ننظر بها إلى أنفسنا وإلى الآخرين وإلى الله...
إنها ليست بالضرورة أزمة انفعالية،
ليست نوبة من الندم والعطف على الذات،
بل هي تحوُّل،
هي إعادة جعل الثالوث القدوس مركز حياتنا ومحورها.
هي ليست قنوطا، بل هي توقع وانتظار باشتياقٍ...
ليست الشعور بالوصول إلى طريقٍ مسدودٍ،
بل أن تجد الطريق للخروج،
أن أتوب هو أن أنظر لا إلى أسفل...
إلى نقائصي وعيوبي الخاصة،
بل أنظر إلى أعلى إلى محبّة الله...
لا أن أنظر إلى الخلف لألوم نفسي،
بل أن أنظر إلى الأمام بثقةٍ...
التوبة ليست هي أن أرى ما هو الذي فشلت في أن أكونه،
بل أرى ما الذي أستطيع أن أصيره، بنعمة المسيح.
إنها ليست مجرد حدث يحدث مرّة واحدة،
بل هي موقفا مستمرًا.
وبالرجوع إلى النهج الإلهي في تعامل الله مع شعبه في العهد القديمنجد أن بني إسرائيل لم يتوقَّفوا حتّى مجيء المسيح عن تقديم الذبائح في الخيمة والهيكل، وذلك لأن الخطيئة لم تتوقَّف في حياتهم. فكما وضع الرب لبني إسرائيل، الذبائح، للتكفير عن الخطيئة، حينما يتعثرون في الطريق ويميلون لسلوك وعبادات للأمم، هكذا نحن الذين صرنا مسكنًا للروح، قد وَهَبَ لنا الرب، التوبة، ذبيحته المُفَضَّلة، لإعادة النقاوة لثوب معموديتنا الأبيض، وليعلن لنا أنه ربًّا «غنيًّا لجميع الذين يدعونه» (رو10: 12)، فالله دائمًا أغنَى من أقصى طموحاتنا في طلب الرحمة.
وعن غنى النعمة التي تنساب بلا حساب، يكتب القديس يوحنا ذهبي الفم( تفسير متى 118/ 4)، فيقول:
النعمة لا تُستنفَذ ولا تضيع، فهي ينبوع دائم الجريان.
فإن كان طلبك هو الرحمة يعطيك معها بحسب غناه النعمة، وإن طلبت الخلاص زيَّنه لك بالبهجة، وإن التمست المُتَّكأ الأخير، رفعك إلى مائدة الملوك، وإن سعيت في التوبة وهبك معها القداسة. فالله دائمًا هو القادر «أن يفعل أكثر جدًّا ممّا نطلب أو نفتكر» (أف3: 20)، وعطيته دائمًا «بحسب كرم الملك» (1مل10: 13) وليس بحسب طلبة واستحقاق العبيد.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:50 AM   رقم المشاركة : ( 9 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

التحوُّل

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
لقد كانت صرخة يوحنا المعمدان المُدويَّة والمُشَبَّعة برائحة الصحراء هي: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (مت3: 2). لقد كانت تلك الكلمات بدايةً لعهدٍ جديدٍ مُنْفَتِح على الأسرار العلويَّة وليس أسير نصوص وأحرف وتقاليد. فالتوبة هي الأساس لبُنْيَان الملكوت الجديد، الذي سيُعْلِنه المسيح في قلوب الذين اجتذبهم الروح، وصاروا مُسْتغرقين في الله وفي الملكوت.
لقد كان نداء يوحنابالتوبة يحمل في طَيَّاته دعوة للتحوُّل تهيُّئا لقبول مسيَّا لم تعلُ هامته هالة من ضياء ولم يرتدِ ثيابًا من برفير ولم يحمل سلاحًا فتَّاكًا مدعومًا بقوى ملائكيَّة لدحر الأعداء. ولكنه جاء في ثياب مُغبَّرة لنجار ناصري بسيط، يتلألأ عرقه من عناء الطريق تحت لهيب شمس اليهوديَّة!!
والتوبة التي نادى بها يوحنا تخطَّت توبة الخطايا؛ فهي جوهريًّا نداءٌ للتحوُّل الذهني لقبول مسيحًا غير اعتيادي، لم يرتسمه الكهنة وعلماء الشريعة وقادة الشعب بهذا المظهر المُخيِّب للآمال.
ولعلنا في هذا العصر المُشوَّه والمُرتَبك نقتبس من المفهوم المعمداني للتوبة لنراها تحوُّلًا فكريًّا لقبول مسيحًا غير الذي تصورناه وتوهمناه في مراهقتنا الروحيَّة. إذًا فتوبتنا تُلامس قناعتنا الماضيَّة عن المسيح، لتبعث فيها حياة تنبثق من حياة المسيح نفسه، حينما يأتي بعذوبةٍ، للنفس المُتلمِّسة الحق وسط ضبابيَّة الباطل المُستشريَّة في أذهان العالم المعاصر.
فالتوبة من هذا المُنْطَلَق هي تغيُّر في قناعاتنا الماضيَّة وتحوُّل في مواقفنا الراهنة بحثًا عن يسوع. إنها ليست مرحلة ولكنها نمط حياتي دائم متواصل. إنها شريعة جديدة أكثر من كونها وصيَّة عابرة. هي حِراك بشري نحو الله وليست انغماسًا ساكنًا في الحزن والقنوط.
  رد مع اقتباس
قديم 25 - 06 - 2014, 11:51 AM   رقم المشاركة : ( 10 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,222,954

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

ولا أنا أدينك

في صباح أحد الأيام، بينما كان يسوع يُعلِّم في الهيكل، وكانت الجموع مُلْتَفَّة حوله كالمعتاد، إذ بجماعةٍ من الكتبة والفريسيين يتجهون إليه في صخبٍ وضجيجٍ، يتبعهم جمعٌ من عامَّة الشعب، وحالما وصلوا إليه ألقوا بفتاة أمامه!!
كانت تلك الفتاة في العَقْد الثالث من عمرها على ما يبدو، متوسِّطة الطول، ذات ملامح شرقيَّة، إلاّ إنَّ وجهها لم يكن مرئيًّا خلف الدموع التي كانت تنهمر منها في صمتٍ. خلف ملامح الرعب والجزع التي لوَّنت وجهها بصُفرة شاحبة، وخلف شعرها الذي تناثرت خصلاته على وجهها حتّى أعادت تشكيل قَسمَاته.
بدأ الكتبة والفريسيون يكيلون الاتهامات لتلك المرأة، في صرامةٍ وقسوةٍ، ولم يكن يخلو كلامهم من ذِكْر مُفردات؛ موسى والناموس والزنَى والرجم. بينما كان يزداد وجه تلك الفريسة المُلقاة في الوسط، شحوبًا.
بدأت الجموع تتوافد وتتهامس فيما بينها. منهم من يُشفقون عليها، ولكن خوفهم من بطش الكتبة والفريسيون يُكبِّل ألسنتهم فيؤثرون الصمت، ومنهم من كان يُطالِب بتطبيق عقوبة الناموس كما هي. ولكن السواد الأعظم من الجمع كانت نظراتهم تُلاحق يسوع الذي وجدوه مُنحنيًّا يُدوِّن بعض الكلمات بأصبعه على الأرض العارية، والناس في حالة ترقُّب لما سيقوله المُعلِّم.
لم تكن حالة الترقُّب تلك هي حالة الجمع المُحْتشِد فقط، ولكنها كانت حالة الكتبة والفريسيين، الذين يقفون في اعتداد، وعيونهم لا تخلو من النشوة والدهاء...
فلو وافقهم يسوع على رَجْم تلك المرأة لانضمَّ لقافلة مُطبقي الناموس، خاسرًا تأييد الشعب له في رؤيته الجديدة لمعنى الوصيَّة. وإن رفض عقوبة المرأة لكان بذلك يُؤكِّد أنه ليس مُؤمنًا بالناموس ولا ابنًا للشريعة، وسيحشدون الجموع ضدّه لكونه ضدّ الناموس، ويصبح هو الفريسة!!
كانت تلك هي الأفكار التي جعلت الكتبة والفريسيين يأتون بتلك المرأة إليه.
ووسط كلمات الكتبة والفريسيين الرنانة المُقتبسة بدقةٍ من نصوص التوراة والممزوجة بنصوص التقليدوبعد خطبتهم الرائعة عن قيمة العقوبة التي يَنُص عليها الناموس لإحداث توازن في المجتمع اليهودي، وإرضاء الله الثائر على هذا النوع من التعدي!! ولِمَ لا؟ أليسوا أبناء يهوذا الذي دَخَلَ على امرأة ابنه وقد حسبها زانية؟ وحينما سمع أن كنَّته قد زنت، قال: «أخرجوها فتُحرَق!!» ( تك 38 ).
وإذ بيسوع ينتصب ويقول بصوتٍ لم يخلُ من نبرة الحزن والأسَى:
«من كان مِنْكم بلا خطيَّة فليرمها أولًا بحجر» (يو10: 7)
لقد كانت تلك الكلمات غير المتوقَّعة بمثابة حجرًا أفقد الكتبة والفريسيين اتزانهم، وانعقدت ألسنتهم عن الكلام، وسادت لحظات من الصمت، انحنَى فيها يسوع على الأرض، وبدأ يكتب دُفعةً أخرى. ولكنه هذه المرّة كان يُحدِّق في أحدهم قبل أن ينحني ليكتب كلمة، وينظر لآخر ويكتب كلمة أخرى، وهكذا... وقد كانت الكلمات التي يكتبها يسوع هي عناوين لخطايا؛ (سرقة الأرامل، زنى، غش، رياء، تعويج الحكم...) كانت تلك أكثر الكلمات تكرارًا.
بدأ الشيوخ ينصرفون واحدًا تلو الآخر وكأنهم يتسلَّلون من فضيحة، وكان يكسو وجوههم توتر وقلق بدا ظاهرًا للجميع. وبعد دقائق قليلة، لم يكن متواجدًا أحدٌ من الكتبة والفريسيين. لم يتواجد إلاّ بعضٌ من عامَّة الشعب الذين ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجوههم الطيِّبة. ابتسامة نُصرة طالما غابت عن وجوههم التي لم تعرف سوى الأسَى!!
ثم انصرفوا أيضًا وهم مطمئنون على تلك الفتاة أنها في أيدٍ رحيمة. وبقى يسوع وحده مع المرأة.
وبقدر ما بدأ الرُعب يتلاشَى من على وجه تلك المرأة، بقدر ما تسلَّل الحياء ليأخذ مكانه على تقاسيم وجهها الحزين. وبينما كانت تحاول النظر إلى يسوع لتشكره على إنقاذها، كانت تلْمَح بريقًا من الطُهر يفتضح خطيئتها كلما حاولت النظر إليه.
انتصب يسوع ونظر إليها نظرةً حانيةً بدَّدَت حياءها، نظرة لم ترها من قبل.. نظرة تؤجِّج الشوق للحياة الطاهرة وتُعيد المعنَى لحياة قد فقدت الطريق الإنساني وسَلَكَت على شاكلة دواب الأرض.
كسر يسوع حاجز الصمت والحياء قائلًا لها:
«أين هم أولئك المشتكون عليك، أما دانك أحد؟؟»
فجاوبته وهي مُطرَقة الرأس إلى أسفل:
«لا أحد يا سيِّد».
فقال لها:
«ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضًا». (يو10: 11)
وفي تلك اللحظة شعرت بسعادةٍ غامرةٍ، وكأن أثقال ماضيها قد تبخَّرت فجأة، وخطاياها التي كانت تؤرق ضميرها ليل نهار تلاشتْ، وحلَّ مكانها شوقٌ للطُهْرِ والنقاوة.
إذًا هذا هو يسوع الذي طالما سَمِعتُ عنه، بالحقيقة هذا هو المسيَّا المُخلِّص. كانت تلك هي الأفكار التي راودتها بعدما مضَى يسوع.
يكتب الكاتب اللبناني أديب مصلح عن تلك الحادثة في كتابه (يسوع في حياته) قائلًا:
الأيدي التي كانت تمسك الخاطئة تراخت
والعيون أطرقت خزيا
وخلت الساحة لاثنين فقط؛
الخاطئة والمُخلِّص،
[البؤس الأقصى والرحمة القصوى] على حد قول القديس أغسطينوس
إن الله في تعامله مع خطيئتنا لا يتخذ موقف الكتبة والفريسيين الصارم كما يعتقد البعض، لا يمسك بيده سيف العقوبة ليُسلِّطه على رِقَاب المُخطئين!! ولكنه يتخذ جانب اللطف، جانب ستر الخطيئة وإطلاق كلمات الغفران. فالله حنون للغاية، يشتاق لرجوع النفس إليه، وهو يَعْلَمُ أن القانون الصارم لا يجتذب النفوس، ولكنه اللطف الإلهي الذي يجعل الخاطِئ يذوب خجلًا من خطيئته، ويتمنَّى لو ينال القدرة أن يُقَدِّم نفسه ذبيحة لذاك الذي يُحبّ النفس حُبا قدر هذا.
حينما قال أحد الإخوة للقديس مكاريوس الكبير:
يا أبي لقد سقطتُ في خطيئةٍ.
كان جوابه:
ارجع يا ابني،
وحينئذ سترى شخص ربنا يسوع المسيح المملوء حلاوة
ووجهه المملوء فرحًا.
كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي
إن هذا هو النهج الأرثوذكسي الأصيل في الحثِّ على التوبة؛ فشعور الخاطِئ بحُبِّ الله، وبإشراقة وجه المسيح من جديد في حياته، يجعله يثور على ضعفة وانهزامه، فتنحلّ قيود الظلمة أمام مجد الحبّ المترقِّب عودته، ذاك المجد الذي يُداعب قلبه المجروح، ليُعيد له الحياة. وهذا ما يُؤكِّده صفروني سخاروف Софроний Сахаров، إذ يقول:
إن نعمة التوبة هي انخطاف الروح إلى الله،
إذ تكون مشدودة إليه بظهور النور.
ويضيف كاليستوس قائلًا:
من المستحيل أن نرى خطايانا قبل رؤية نور المسيح
فالتوبة هي انجذاب الإنسان كيانيًا نحو المصدر الوحيد الذي يحمل له شعلة الرجاء وسط ليل الظلمة الحالك. فيظهر المُخلِّص بنوره الفائق الوصف ليحمل الروح نحو مدارات النور الأبدي ليُرسِّخ فيها جمال وبهجة الحياة الجديدة بعيدًا عن الظلمة والخطيئة. وتلك هي الخبرة التي يسير بها التائب في مسيرته اليوميَّة محاولًا الانفلات من الفخاخ المنصوبة والسهام المُنْطلِقة لإسقاطه.
لقد رسم فنانان فرنسيان لوحتين عن مَثل الابن الضال؛ كان أولهما دي شافان de Chavannes وقد ركَّز فيها على حالة الابن التعِسة، والثاني رامبرندت Rembrandt ركَّز فيها على موقف الأب. ولقد علَّق L. Cerfaux في كتابه (المسيح في لاهوت القديس بولس Le Christ dans la thèologie de st. Paul) على لوحة رامبرندت قائلًا: [الشاب يبقَى في الظلِّ مُديرًا ظهره للمُشاهِد، ورأسه على ركبتي والده، وعلى ثيابه الرثة وحذائه المتهرِّئ يتدفق نورٌ يبدو أنه ينبعث من وجنتي الأب في وسط اللوحة، ومن وجهه الوقور ذي العينين المنطفأتين بسبب البكاء والمفعمتين حنانًا، يبسط الشيخ معطفه ليستر شقاء الابن الضائع، ويداه تستندان مرتجفتين على كتفي الابن، كأنه يخشى عليه أن يعود فيرحل ثانية. أما الابن البكر فيقف جانبًا بوجهٍ قاسٍ ومُقطب احتقارًا لضعف الأب!!. لقد اكتشف رامبرندت حقًا النقطة المركزيَّة في المَثل، أعني الأب الحنون].
إنَّ أبوة الله المُحِبَّة هي التي تُشكِّل كلّ حركة إلهيَّة نحونا حتّى ونحن خطاة. كما أن ضياء النور المُنبعِث من وجه حضوره في لحظات أسفنا على الخطيئة هي الدافع الأكبر لنهوضنا والجاذب الأعظم لقلوبنا نحو الملكوت.
وقد يتساءل البعض فلماذا إذًا الناموس والقانون والعقوبة؟!
إن العقوبة ليست للتائبين.. ليست للذين لهم نفوس مُرهَفَة تحتاج فقط أن يستحثها ويُشجِّعها لُطف الله لكيما تستقيم مرّة أخرى.. ليست للذين لديهم الرغبة بينما يجتذبهم الجسد، للعالم، دون قدرة على الانفلات.. ليست للباحثين عن الله الذين يفتشون الكتب حتّى يستنيروا في حروبهم الروحيَّة لتذوُّق طَعْمَ النُصرة.
والعقوبة في المقابل، هي للمعاندين والقساة القلوب الذين لا يستشعرون اللطف الإلهي. إنها للذين فقدوا الحس وأماتوا ضمائرهم وكفَّنوها!!. هي للذين في قسوتهم الذاتيَّة يحتاجون إلى شدّة الله لكيما يعودوا إلى صوابهم ويرجعوا عن طرقهم الرديئة.
  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
سماؤنا الراهب سارافيم البرموسي
نصائح لسرّ التوبة والاعتراف الراهب سارافيم البرموسي
كتاب صديق نصف الليل - الراهب القس سارافيم البرموسي
كتاب لهذا أنا مسيحي - الراهب القس سارافيم البرموسي
التعريف الشامل لمفهوم التوبة لـ الراهب سارافيم البرموسي


الساعة الآن 01:24 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024