منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 05 - 09 - 2023, 11:14 AM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,225,026



صَليبُ يسوع وصَليبُ أَتبَاعه



صَليبُ يسوع وصَليبُ أَتبَاعه

الأحَد الثَّاني والعِشرون من السَّنة:

صَليبُ يسوع وصَليبُ أَتبَاعه (متى 16: 21-27)



النص الإنجيلي (متى 16: 21-27)



21 وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَة والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث. 22 فَانفَرَدَ بِه بُطرس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول: ((حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!)). 23 فالتَفتَ وقالَ لِبُطرس: ((إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر)). ثُمَّ قالَ يسوعُ لِتَلاميذِه: ((مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني، 25 لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها. 26 ماذا يَنفَعُ الإنْسَان لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإنْسَان بَدَلاً لِنَفسِه؟ 27 (فسَوفَ يَأتي ابنُ الإنْسَان في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه. 28-الحَقَّ أَقولُ لكم: مِنَ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ الموتَ حتَّى يُشاهِدوا ابنَ الإنْسَان آتِياً في مَلَكوت)).



مقدمة



يُسلط إنجيل الأحد الأضواء على إنباء يسوع بآلامه لأول مرة، طالبًا من تَلاميذه أن يكونوا شركاء له في آلام صليبه كي يكونوا فيما بعد شُركاءه أيضا في قيامته ومجده (متى 16: 21-27). ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.



أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 16: 21-27)



21 وبَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَة والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث.



تشير عبارة "مِن ذلِكَ الحينِ" في الأصل اليوناني Ἀπὸ τότε (معناها من حينه) إلى تحديد نقطة فصل وتحوّل حيث حدَّد يسوع للمَرة الأولى إعلان مَلكوت السَّماوات "وبَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي فيَقول: ((تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات" (متى 4: 17)، وهنا يُحدِّد يسوع من جديد موته وقيامته مؤكِّدًا بالإعلان رسميًا عمَّا سيُعانيه ابن الإنْسَان في أُورَشَليم من المٍ وعَذابٍ وظُلمٍ واضطهاد، وذلك بعد اعتراف بُطرس بألوهية المسيح، وثبات إيمان التَّلاميذ. حينئذٍ اتَّخذت خدمة يسوع مظهرًا مختلفًا، سعى يسوع لإعداد تَلاميذه للآلام التي تنتظره داعيًا إيَّاهم إلى تغيير تفكيرهم وأَنظارهم على سرِّ الله. أمَّا عبارة "يُظهِرُ لِتَلاميذِه" فتشير إلى التنبّؤ عن آلامه وموته، وسرّ دعوته ورسالته لتَلاميذه. أمَّا عبارة "يَجِبُ علَيهِ" فلا تشير هنا إلى التقييد وانعدام الحرية إنَّما إلى الإرادة الإلهية لإتمام رسالة يسوع لفداء البشرية، دلالة على تطابق ما يحدث مع مُخطَّط المسيح. لأنَّ تحوُّل الألم والموت إلى مجد القيامة بعد ثلاث أيام هو جواب على مخطط الله الخلاصي. لذلك يواصل يسوع سيره بطاعة حُرَّة نحو أُورَشَليم لتحقيق مخطط محبة الآب من خلال بذل نفسه لخلاص الإنْسَان من خلال موته وشهادة دمه على الصَّليب" كما جاء في خطبة إسطفانس لليهود "أَيّاً مِنَ الأَنبِياءِ لم يَضطَهِدْهُ آباؤكم، فقَد قتَلوا الَّذينَ أَنبَأُوا بِمَجِيءِ البارِّ ولَه أَصبَحتُم أنتُمُ الآنَ خَوَنَةً وقَتَلَة" (أعمال الرسل 7: 52). لانَّ خلاص الإنسان يعتمد على طاعة المسيح لمخطَّط محبَّة الآب. وبهذه الطريقة يسير يسوع إلى مصيره تنفيذًا لمشيئة الله وتحقيقًا للخلاص الذي لا يقوى عليه أحدٌ سواه. لكن التَّلاميذ عجزوا عن إدراك هدف يسوع بسبب ظنِّهم أنَّ المسيح المُنتظر هو مسيحٌ سياسيٌ دُنيويٌ. ومن هذا المنطلق، لم تكن آلام يسوع حدثًا طارئًا أو صُدفة ولا مصيرًا محتومًا، إنَّما هو مخطط الله الذي يُحقِّقه يسوع بطاعته لمشيئة الله آبيه في هذه الآلام لأجل خلاص البشر. أمَّا عبارة " أُورَشَليم" فتشير إلى مدينة قاتلة الأنبياء، تلك المدينة التي رفضت خلاصها كما جاء في إنذار يسوع "أُورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبياءِ وراجِمةَ المُرسَلينَ إِليها! كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَن أَجمَعَ أَبناءَكِ كَما تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تَحتَ جَناحَيْها! فلَم تُريدوا. (لوقا 13: 34). وهناك يتألم يسوع فيها وفقًا لقوله "لا يَنبَغي لِنَبِيٍّ أَن يَهلِكَ في خارِجِ أُورَشَليم" (لوقا 13: 33)؛ إنها مدينة آلامه وموته وقيامته. أمَّا عبارة "يُعانِيَ آلاماً شَديدة " فتشير إلى أول إنباء من ثلاث إنباءات يسوع بموته وقيامته في طريق صعوده إلى أُورَشَليم. (17: 22، 23؛ 20: 18)؛ وفي الإنباء الثالث هناك تفاصيل أدقُّ ممَّا ورد في الإنباءين الأولين، وهو دور الوثنيين، والسُّخرية والجلد والصلب، كما ورد في إنجيل متى "ها نَحنُ صاعِدونَ إلى أُورَشَليم، فابنُ الإنْسَان يُسلَمُ إلى عُظَماءِ الكَهَنَة والكَتَبَة، فيَحكُمونَ عليه بِالموت ويُسلِمونَه إلى الوَثنيِّين، لِيَسخَروا مِنهُ ويَجلدِوهُ ويَصلِبوه، وفي اليومِ الثَّالثِ يَقوم" (متى 20: 18-20). والهدف من تلك الإنباءات هو تبديد يسوع لظن التَّلاميذ أنَّ المسيح المنتظر ليس مسيحًا سياسيًا يخلص شعبه بالقوة، بل مسيحًا متألمًا يخلص شعبه بالموت نيابة عنه، وأن المصير الذي ينتظره سيكون مصير كل إنسان، يتسم بالألم والموت، ولن يعفيه إعلان كونه ابن الله من العِداء والرَّفض والألم والموت. ويُشدِّد لوقا الإنجيلي على عدم إدراك التَّلاميذ لمعنى ذلك الإنباء (لوقا 9: 45، 18: 34). ويتفق حالة المسيح المتألم مع نبوءات دانيال. فالمسيح يجب أن يُقتل (دانيال 9: 26) ثم يأتي وقت ضيق (دانيال 9: 27)، وسيأتي أخيرا في المَجْد (دانيال 7: 13) وسيتحمل التَّلاميذ نفس الآلام كمعلمهم ويُجازون مثله في النهاية. فالألم والموت سيقودان إلى مجد القيامة. وهذا هو المعنى الحقيقي لمُلكه في المَجْد الذي لم يظهر إلاَّ على الصَّليب، وكان هذا قلب الإنجيل ونواة الإيمان في الجَّماعة المسيحية الأولى. فموضوع صلب المسيح وقيامته ليس مجرد نهاية حياة على الأرض أو حتى مجرد استشهاد مثل بقية الشهداء، وإنَّما كما أعلن الرَّبّ يسوع نفسه وكما أعلن الوحي الإلهي في العهد الجديد، كان أمراً محتوماً منذ الأزل: " كُشِفَ مِن أَجلِكُم في آخِرِ الأَزمِنَة" (1 بُطرس 9:1، 20)؛ أمَّا عبارة "الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَة والكَتَبَة" فتشير إلى فئات الرُّتب الثَّلاث التي تُشكِّل السنهدريم، مجلس اليهود الأكبر، وهو مؤلّف من 71 عضوًا، الذي كان يحكم الشعب اليهودي. وكان هذا المجلس يضم ممثلي الأرستقراطية العلمانية، الشُيوخ πρεσβυτέρων، أي رؤساء الشعب، ومن كبار الآسر الكهنوتية، عظماء الكَهَنَة ἀρχιερέων، الذين كانوا يختارون منها عظيم الكَهَنَة أو الحبر الأعظم، ومن "الكَتَبَة" γραμματέων ،أي معلمي الشَّريعة ومُفسِّريها وناسخيها وهم فريسي النزعة في اغلب الأحيان. وكان المجلس يرأسه عظيم الكَهَنَة (عظيم الأحبار) في أيام ولاية قيافا. أمَّا عبارة "يقومَ" فتشير إلى إنباء المسيح بقيامته لكي يُعزّي تلاميذه ويُشجِّعهم لِمَا اعتراهم من إنباء رفضه وموته. لكنهم لم يُدركوا الخبر المحزن ولا الخبر المفرح. أمَّا عبارة "في اليومِ الثَّالث" فتشير إلى الفترة ما بين مساء الجمعة وصباح الأحد كما ورد أيضا في رسائل بولس الرَّسُول " وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب"(1 قورنتس 15: 4)؛ وتتكرر عدة مرات في الكتاب المقدس (تكوين 42: 18، خروج 19: 16، يشوع 2: 6، هوشع 6: 2). وتُستخدم لتعني نقطة تحول وعبور من موقف مأساوي يائس لا سبيل للخروج منه. إن نقطة التَّحول والخلاص هذه، لا تحدث أبدًا على الفور، في اليوم الأول، بل دائمًا في اليوم الثالث، عندما يكون واضحًا أنه ليس قدرة الإنْسَان هي الّتي تولد نقطة التحوُّل، بل الرَّبّ وحده، ونعمته. أمَّا إنجيل مرقس يذكر عبارة خاصة به " وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام" (مرقس 8: 31) ولها مدلولها الكتابي، كما ورد في هوشع النبي " بَعدَ يَومَينِ يُحْيينا وفي اليَومِ الثَّالِثِ يُقيمُنا فنَحْيا أَمامَه"(هوشع 6: 2). وأوضحت كرازة الرسل الزمن، كما جاء في عظة بُطرس في بيت قرنيليوس "هو الَّذي أَقامَه اللهُ في اليومِ الثَّالِث، وخَوَّلَه أَن يَظهَر (أعمال الرسل 10: 40)، وكما جاء أيضا في عظة بولس الرَّسُول " أَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب" (1 قورنتس 15: 4). إن إنباءات يسوع بآلامه وقيامته تُشدّد على مخطط الله وطاعة المسيح لمشيئة الله في الأحداث. لسنا نحن أمام مصير فُرض على يسوع إن يتحمّله كُرهًا، ولا أمام حدث حصل صدفة، لكن اختيارًا، إذ نظر يسوع إلى هذه الآلام وتقبّلها مسبقًا محبةً للآب (يوحنا 14: 31). هذه هي نقطة التحوُّل في تدريب يسوع لتلاميذه. فقد بدأ يُعلمهم بوضوح ويشرح لهم انه لن يكون المسيح المنتصر إلاَّ بعد آلامه وموته، لأنه يجب عليه أن يتألم ويموت ويقوم ويجيء يومًا في مجدٍ عظيمٍ ليُقيم مَلكوته الأبدي. وهكذا تشكِّل آلام يسوع وموته وقيامته نواة الإيمان في الجماعة المسيحية الأولى، وهي قلب الإنجيل. والجدير بالذِّكر أن متى الإنجيلي ينفرد بتكرار هذه الآية.



22 فَانفَرَدَ بِه بُطرس وجَعلَ يُعاتِبُه فيَقول: ((حاشَ لَكَ يا رَبّ! لن يُصيبَكَ هذا!)).



تشير عبارة "فَانفَرَدَ بِه" إلى التَّكلم مع يسوع على حِدة، وذلك ظنًا منه أنَّ المسيح قال ذلك لشِّدة انفعالاته من مقاومة الرُّؤساء له حيث أنبأ بتلك المصائب، أولانَّ كلام المسيح يُلاشي كل رجاء بُطرس ورجاء غيره في النَّجاة والانتصار على يده. أمَّا عبارة "يُعاتِبُه" فتشير إلى انتهاره وردعه ومنعه، وهذا العِتاب يُظهر تناقض بُطرس مع اعترافه الصِّريح ليسوع في قيصرية فيلبس وتحوّله عن وجهة نظر الله متخذًا نظرة بشرية، فهو في خط التجربة المسيحانية لدى اليهود الذين يرفضون فكرة المسيح المُتألِّم. يريد بُطرس أن يمنع سِّيَده من الذهاب إلى أُورَشَليم لتسليم نفسه فيها للرّومان والفِرِّيسيِّين ويقتلونه. لا شكَّ أنَّ موقف بُطرس يُظهر صعوبة التوفيق بين لقب المسيح وفكرة الآلام والموت، حيث ظنّ بُطرس أنه يُعلن محبته ليسوع إذا جعله يرفض آلامه. وعمل بُطرس هذا دلالة على محبته للمسيح وغَيْرته في خدمته، لكنَّه كان سريع الكلام والعمل بلا رويَّة. ويعلق البابا بِندِكتُس السادس عشر "حين حاول بُطرس أن يعترض على كلام الرَّبّ يسوع وعلى ما سوف ينتظره في أُورَشَليم، وتلقى حينها تنبيهاً حاداً: "أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر"، وبعد وقوعه، ندم بُطرس ووجد الغفران والنعمة. والجدير بذكر أمرين: الأول: إن الرَّبّ يسوع يحترم حرّيتنا، والثاني: إنّ الرَّبّ يسوع ينتظر جهوزيتنا للتوبة والعودة إليه، فهو مملوء رحمةً وغفرانًا" (المقابلة العامّة بتاريخ 18/10/2006). أمَّا عبارة "حاشَ لَكَ" في الأصل اليوناني Ιλεώς σοι, κύριε: (معناها ارحم نفسك) فتشير إلى منع يسوع وإمساكه من التألم والذِّهاب إلى الموت، وبالتالي ردَّه عن رسالته ؛ مما يُظهر تفاعل بُطرس السريع لتعليم الجديد ليسوع عن تألمه. بُطرس لا يحب للمسيح عذابا، بل يحب له المَجْد والعظمة والجبروت والخلود، وأراد أن يحميه من الآلام التي أنبأ بها؛ يُمثل بطرس كلَّ واحدٍ منَّا عندما نقاوم مخطط الله وإرادته القدُّوسة بأفكار ليست أفكار الله. أمَّا عبارة "لن يُصيبَكَ هذا!" فتشير إلى محاولة بُطرس أن يمنع يسوع من الذهاب إلى الموت، وهي نفس التجربة التي سمعها من الشَّيطان في البَرِّية: "إِن كُنتَ ابنَ الله فأَلقِ بِنَفسِكَ إلى الأَسفَل، لأَنَّه مَكتوب: يُوصي مَلائكتَه بِكَ فعلى أَيديهم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجرٍ رِجلَكَ" (متى 4: 6). يسير بُطرس في خط التجربة المسيحانية لدى اليهود الذين يرفضون فكرة "مسيحٍ" متألمٍ، ويريدون مسيحًا ملكًا ارضيًا منتصرًا يردّ المَجْد إلى إسرائيل بالقوة، ويفرض الخلاص ومُلك الله على الجميع من خلال الخوارق والأعاجيب. فكأنَّ شيطان أريحا قد عاد به إلى المسيح يُجرّبه بالعظمة ويردّه عن رسالته. هل نقبل كل ما يوحي به الله إلينا من أفكار، أم نقبل فقط تلك التي تعجبنا وتحظى برضانا؟



23 فالتَفتَ وقالَ لِبُطرس: ((إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان، فأَنتَ لي حَجَرُ عَثْرَة، لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر)).



تشير عبارة "إِنسَحِبْ! وَرائي!" في الأصل اليوناني Υπαγε ὀπίσω μου (معناها اذهب خلفي) إلى طلب يسوع من بُطرس أن يجد مكانه، وراء المُعلم وليس أمامه، وإلاَّ يكون حجر عثرة بين يسوع والآب السَّماوي. لما جاءَ يسوع إِلي تلاميذه ماشِياً على البَحْر، حسبما جحاء في الفصول السَّابقة، سأله بُطرس أن يأتي إليه على الماء " فقالَ لَه: تَعالَ!" (متى 14: 29)! وأمّا اليوم فيقول له العكس: إِنسَحِبْ! وَرائي! يا شَيطان. فماذا جرى؟ إن ما قاله بُطرس ليس من عند الله، بل هو تكرار لتجربة إبليس في البرِّية كي يتجنب يسوع الموت على الصَّليب لهذا السبب قال يسوع لبُطرس نفس العبارة التي قالها لإبليس حين جرَّبه في البرية "اِذهَبْ، يا شَيطان! " Υπαγε, Σατανᾶ (متى 4: 10). وبينما كانت دوافع الشيطان شريرة، كانت دوافع بُطرس هي محبة يسوع وحمايته وربما البحث عن مصلحته الشَّخصية؛ أمَّا عبارة " يا شَيطان" فتشير إلى مُعارض يقف في كحاجز في الطريق كي يمنع النَّاس من المُرور. رفض بُطرس الصَّليب فدعاه السيّد المسيح "شَيطانًا"، و "عثرة لي" و "مهتمًّا بما للنَّاس لا بما لله". إن بُطرس، بمعارضته آلام يسوع، يقوم مقام الشّيطان الذي يُحاول أن يردَّ يسوع عن طاعة الله وتأدية رسالته؛ بهذا يهجر بُطرس مكانه، لانَّ على التِّلميذ أن يسير وراء يسوع (مرقس 1: 17). وقد دعاه يسوع شَيطانا، وكأنَّ الشيطان جاءه ببُطرس مُجربًا إيَّاه من جديد. بُطرس ليس شيطانًا، ولكنه يُرِّدد ما وسوس به الشَّيطان لهُ لرفض الصَّليب. أمَّا عبارة "حَجَرُ عَثْرَة" في الأصل اليوناني σκάνδαλον(معناها شك) فتشير إلى عائق ومصيدة أو فخ يعرقل السَّير (مزمور 124: 7)، ويُسبّب السقوط (أشعيا 8: 14-15)، ويمنع عن إتمام الواجبات ، وبهذا لم يقبلْ بُطرس السَّير وراء يسوع (متى 5: 29، 16: 23، 18: 6-9) وإنَّما عمل على تعطيل يسوع للسير نحو الصَّليب والفِداء. ولن يسمح يسوع لأفكار بُطرس البشرية التي ليست من الآب أن تصبح حجر عثرة في طريقه، هذه الأفكار التي تدّعي وجود خلاص دون المرور من بوابة الآلام والموت وبذل الذَّات. أمَّا عبارة "لأَنَّ أَفكارَكَ" في الأصل اليوناني φρονεῖς (معناها تفكِّر أو تهتم) فتشير إلى تبنِّي وجهة نظر معينة مغايرة عن وجهة نظر الله، كما وردت في رسائل بولس "فالَّذينَ يَحيَونَ بِحَسَبِ الجَسَد يَنزِعونَ φρονοῦσιν إلى ما هو لِلجَسَد، والَّذينَ يَحيَونَ بِحَسَبِ الرُّوح يَنزِعونَ إلى ما هو لِلرُّوح" (رومة 8: 5)؛ أمَّا عبارة "لأَنَّ أَفكارَكَ لَيسَت أَفكارَ الله، بل أَفكارُ البَشَر" فتشير إلى بُطرس الذي عاد إلى أفكار البشر تاركًا أفكار الله. فقد عاد بُطرس إلى اللحم والدم فكانت نظرته نظرة بشريَّة مرتبطة بالعَالَم الذي يعيش فيه، وقد أعلن يسوع أن ما يقوله بُطرس ليس من عند الله؛ أمَّا عبارة "أفكار الله" فتشير إلى نظرة يسوع التي تتوافق مع نظرة الله، وهي تقبُّل الصَّليب طريقا للخلاص؛ أمَّا عبارة "أَفكارُ البَشَر" فتشير إلى نظرة البشر المُتمثلة برَد فعل بُطرس، والتي ترى أنه من غير المعقول أنَّ خلاص الله ينبغي أن يسلك طريق الإهانة والعذاب والصَّليب والموت. أفكار البشر تكمن فيما يشتهيه الناس ويتوقعونه ويقصدونه كالشَّرف الدنيوي والرَّبّح العَالَمي إلى غير ذلك مما يختص المَمالك الأرضية، كما يتوقع اليهود. لذلك كان من المستحيل أن يتوقعوا المسيح الملك أن يُذلّ ويتألّم ويُقتَل على الصَّليب. ونحن هنا أمام طريقتين لفهم الحياة: طريقة يسوع التي تكشف كيف يفكر الله، وطريقة بُطرس التي تمثل ما يدعوه يسوع "الشيطان". وكثيرًا ما ورد موضوع عدم فهم التَّلاميذ (مرقس 4: 13، 6: 52، 7: 18). وعندما نتساءل نحن اليوم: لماذا جرى سوء التفاهم هذا؟ فنجد الجواب عند يوحنا الإنجيلي حيث يقول:" ذلك بِأَنَّ بُطرس ويوحنا لم يكونا قد فهِما ما وَرَدَ في الكِتاب مِن أَنَّه يَجِبُ أَن يَقومَ مِن بَينِ الأَموات " (يوحنا 20. 9). لقد جاء السيّد يُقيم مملكته خلال صليبه، فمن يرفض الصَّليب كوسيلة لخلاصنا يرفض الفكر الإلهي. وبعد أن رفض يسوع تجربة بُطرس، وبَّخ بُطرس على موقفه، وطلب منه أن يتبعه ليكون التِّلميذ الذي يسير وراء معلمه. إن معاتبة يسوع لبُطرس تضعنا أمام سؤال: ما هي صورة الله التي نحتفظ بها في معتقدنا الديني؟



24 ثُمَّ قالَ يسوعُ لِتَلاميذِه: ((مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني،



تشير عبارة "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني" إلى جملة شرطيَّة، حيث يطلب يسوع من بُطرس أن يتبعه بحرية ليسير وراء معلمه، وألاَّ يكون "حجر عثرة" يقف عائقا في الطريق إلى أُورَشَليم. وكان الإنباء الأول هو الذي حدَّد شروط إتباع المسيح. من أراد من تلاميذ يسوع أن يتبعه في طريقه إلى أُورَشَليم عليه أن يتألم معه. كل إنباء بالآلام تبعته أقوال يسوع الذي يستخلص النتائج لتلاميذه. يفصل قول يسوع بين مَن يتبعه بالحق ومَن لا يتبعه. وتعلق القدّيسة تيريزا -بينيديكت الصليب، شهيدة وشفيعة أوروبا "إن الّذين يريدون أن يتّحدوا بالمسيح، يجب أن يتركوا أنفسهم ليُعلّقوا على الصليب معه. هم مدعوّون إلى الصليب، وهم جميع المُعمَّدين. لكنّ جلّهم لا يفهمون الدعوة، وجُلّهم لا يتبعونها"(عرس الحمل -14/09/1940). أمَّا عبارة "يَتبَعَني" فتشير إلى الدعوة للسَّير على خطى يسوع ومعه والعيش وفقًا لأسلوبه كي يكون تلميذًا مُخلَّصًا. تأتي الدعوة من يسوع، حيث أنَّ المعلم هو الذي يختار التِّلميذ، وليس التِّلميذ الذي يختار معلمه. وعندما يُلبِّي التِّلميذ الدعوة يتبع يسوع، لا كسامع فقط، بل كمعاون ومُشاهد لمَلكوت الله (متى 10: 1-27). فالتِّلميذ لا يتمسك بتعليم المُعلم فقط، بل يلازم شخصه. ومن هذا المنطلق "إتباع يسوع لا يعني سيرًا خارجيا وراء شخص يتعلق التِّلميذ به، بل التَّعلق به حتى الزُّهد في الذَّات وحمل الصَّليب. أمَّا عبارة "يَزْهَدْ في نَفْسِه " في الأصل اليوناني " ἀπαρνησάσθω ἑαυτὸν(معناها يرفض حقوقه على نفسه وحقه في الخيرات الزمنية) فتشير إلى تنحية الذَّات تنحية كاملة عن المنطق الدنيوي والخيرات الزمنية لكي يصبح المسيح مركز حياة التِّلميذ. ولا تكون راحته ولذَّته الغاية العُظمى بل يُطلب من التِّلميذ أن يترك الشَّهوات وكل شيء يمنعه من خدمة الله الكاملة وبذل الذات إلى اقصى الحدود، لانَّ الحياة مع يسوع اختيار، وكل اختيار تضحية، لانَّ حياة التِّلميذ الأصيل تُحدّدها حياة يسوع: والزُّهد في النَّفس لا يعني احتقار الذَّات ولا هدمها، إنَّما عدم تركيز على الذَّات بل بذل الذَّات في سبيل المسيح عن طريق الأخوة. عندئذ لا نعتبر الذَّات خير ما نريد الاحتفاظ به لنا وحدنا، بل هبة يجب أن نبذلها. ومن هنا جاء قول القديس أوغسطينوس "إنّ تاريخ العَالَم صراع بين شكلين من الحبّ، حبّ الذَّات حتى فناء العَالَم، وحبّ الآخرين حتى التَّخلي عن الذَّات". ليس الزُّهد في النَّفس هدفًا بحد ذاته، إنَّما هو شرط لبلوغ ملء الحياة. لا يدعونا يسوع بالصَّليب والزُّهد في الذَّات إلى الهلاك، بل إلى الحياة الأبدية. أمَّا عبارة " نَفْسِه" في الأصل اليوناني ψυχή (معناها النَّفس) فتشير إلى حياته، كما ورد في نص آخر من إنجيل متى " لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفس"(متى 10: 28). أمَّا عبارة "يَحمِلْ صليبَه" فتشير إلى إحدى الوسائل الرومانية لتنفيذ الإعدام. وكان على المُجرمين المحكوم عليهم بالإعدام أن يحملوا صلبانهم ويسيروا في الشَّوارع إلى موقع تنفيذ الحُكم تعبيرًا عن الخضوع لسلطة روما. واستخدم يسوع تشبيه حمل الصَّليب لإعطاء صورة عن غاية الخضوع المطلوب من أتباعه. فحمل الصَّليب يعني أن حياة التِّلميذ الأصيل تُحدِّدها حياة يسوع: لا بُدَّ له أن يتبعه في الزُّهد في النَّفس المُعبّر عنه بقبول الصَّليب بالتَّواضع والصَّبر والمجازفة بالحياة في سبيل يسوع والبِشارة. وهذه البِشارة قد تحمل التِّلميذ على التضحية بحياته، كما أنَّ رسالة يسوع بلغت به إلى الصَّليب. وهكذا من يتبع يسوع عليه التسليم الكامل لله والبذل حياته حتى الموت، دون أي رجوع أو نكوص. فالصَّليب ثمن للأمانة لله وللإخوة. فينبغي للتلميذ ألاَّ يموت في ذاته فحسب، فان الصَّليب الذي يحمله هو العلامة على انه يزهد في الدُّنيا أيضًا، ويقطع كل علاقاته الطبيعية (متى 10: 33-39) ويقبل وضعه كمُضطَّهد (متى23: 24). وإذا كان الصَّليب عارٌ عند اليهود، وحماقةٌ عند الوثنيّين؛ فهو عند المؤمنين رمز الخلاص (1قورنتس 1: 23-24). في الواقع، حمل يسوع صليبه، وهناك مسيحيون فعلوا مثله على ما يقول التقليد عن بُطرس واندراوس. وأمَّا إنجيل لوقا فقد أضاف عبارة "كل يوم" كما ورد في النص "يَحمِلْ صَليبَهُ كُلَّ يَومٍ ويَتبَعْني" (لوقا 9: 23) وذلك للدلالة على أنَّ الصَّليب هو الرفيق اليومي للمسيحي. ولا بدَّ أنَّ ذكر الصَّليب أذهل تلاميذ يسوع، لأنَّهم كانوا يعلمون جيداً أنَّ الصَّليب لم يكن يُحمل لمجرد انه ثقل على حامله، بل على انه شيء يُسمّر عليه حتى يموت. الصَّليب في إنجيل مرقس لا يعني الضّيقات والأتعاب فحسب، إنما الموت أيضًا. وهذا ما يجب أن يتوقعه كل تلميذ من العَالَم. ومن يختبر عداوة لا بدَّ من أن ينتج عنها اضطهادات (مرقس 8: 34). قبول الصَّليب شرطٌ لا بدَّ منه للحصول على المَجْد. أمَّا عبارة " يَحمِلْ" في اصل اليوناني ἀράτω(معناها يرفع) فتشير إلى رفع الصَّليب عاليًا لكي يراه الجميع. وهو فعل اقوى من فعل ما ورد في موقع آخر في إنجيل متى" ومَن لم يَحمِلْ λαμβάνει صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي (متى 10: 38). أمَّا عبارة "صليبَه" فتشير إلى تعيين الرَّبّ نوعية الصَّليب الذي على التِّلميذ أن يحمله، ألا وهو صليبه الخاص، وليس صليب المسيح الذي لا ولن يقدر أحد أن يحمله سواه. وهو الذي يحمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرَّته بدلا عن البشرية كلها "لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة " (يوحنّا 3: 16). ويقول اللاهوتي ثيودورس المصّيصي "لا تدعوا الصَّليب يخيفكم، يقول الرَّبّ يسوع، ولا تدعوه يُشَكِّكُم في أقوالي" (شرح لإنجيل القدّيس يوحنّا). أمَّا عبارة "يَتبَعْني" في الأصل اليوناني ἀκολουθείτω (معناه أن يكون قريبا من ويلتصق بي) فتشير إلى التسليم الكامل والمخاطرة حتى الموت دون أي رجوع أو نكوص، إذ ربط يسوع بين مصيره ومصير تلميذه. فعلى التِّلميذ أن يتبع الرَّبّ بالخضوع لإرادته وبالاقتداء بحياته. فان لم يكفر من أجله بنفسه ويجعل حياته ثمنا للخلاص فلن يستطيع أن يكون تلميذه. ويُعلق القدّيس أوغسطينوس "يحبّ الجميع الارتفاع بالمَجْد، لكن التواضع هو السّلّم التي يجب تسلّقه للوصول للمَجد. لذا، فيسوع لم يقل فقط: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه"، لكنّه أضاف: "فليَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني "(العظة 96). فإذا كان مَن يُحيينا قد تواضع إلى هذا الحدّ، فكم بالحريّ نحن علنيا أن نتواضع. وهناك ثلاثة شروط ينبغي أن يتممها كلُّ من يريد أن يتبع يسوع: الاستعداد للزهد في الذَّات، وحمل الصَّليب، وتسليم حياته للمسيح أي طاعة كاملة لكلِّ ما يسمح به الله. لا سلامَ للنفس ولا رجاءَ بالحياة الأبديّة إلاّ بالصَّليب. وفي هذا الصَّدد يقول كتاب الاقتداء بالمسيح "إن حملت الصَّليب طوعًا، حملك هو". لا يمكن أن يكون الإنْسَان مسيحيًا إلاّ بإنكار الذَّات وحمل الصَّليب.



25 لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها.



تشير عبارة "يُخَلِّصَ" إلى الرَّبّح أو الحصول على شيء من حياته لنفسه من ناحية، ومن ناحية أخرى هو الهروب من الاستشهاد، أو الشَّدائد للتمتُّع بملذات الدُّنيا، أو رفض الصَّلاة والصَّوم للتَّمتع الدُّنيوي. أمَّا عبارة "حَياتَه" فتشير إلى الحياة الذَّاتية أو الحياة الطبيعية أو الحياة السطحية، كما نراها ونحكم عليها يوميًا بالمقابلة مع الحياة الروحية، كما يراها الله ويُخطط لها. أمَّا عبارة "يَفقِدُها" فتشير إلى الهلاك حيث أنَّ من يريد أن يعيش حياته البشرية من خلال غناه وملذاته وفرض نفسه على الآخرين بالحصول على مراكز قوة وموارد اقتصادية، هو في نظر الله إنسان فقَدَ حياته. فالغنى المادي لا يضمن السَّعادة ولا الرَّاحة في الحياة، كما يترنم صاحب المزامير " لا يَفتَدي أَخٌ أَخاه ولا يُعطي اللّهَ فِداه: فِديةُ نُفوسِهم باهِظة وهي لِلأبدِ ناقِصَة. أَ فبَعدَ ذلِكَ لِلأَبَدِ يَحْيا والهوةَ لا يَرى؟ "(مزمور 49: 8 -10). لا يستطيع أحد أن يدفع ثمنًا للحياة الأبدية أو أن يعيش للأبد. ولا تستطيع جميع الكنوز الأرضيَّة أن تحميه من الموت، لأنَّنا إن لم نزهد في نفوسنا، فإننا نصنع سجوننا بأنفسنا، لأنَّنا نبدأ في الموت روحيًا وعاطفيًا، ونخسر هدفنا المنشود. يريدنا يسوع أن نختار إتباعه ولا يريدنا أن نختار حياة الخطيئة وإرضاء الذَّات. من يهتم بحياته فقط، فلن يجد الضَّمان. فمن رفض الصَّليب ربح العَالَم وخسر الأبدية، كما ترنَّم صاحب المزامير " تِلكَ طريقُ المُعتَدِّينَ بِأَنفُسِهم وعاقِبَةُ الرَّاضينَ بِمَصيرِهم. كالغَنَمِ تُرِكوا في مَثْوى الأَمْوات والمَوتُ يَرْعاهم والمُستَقيمونَ يَسودونَهم. في الصَّباحِ تَتَلاشى صورَتُهم ومَثْوى الأَمواتِ سُكْناهم" (مزمور 49: 14 -15). أمَّا عبارة "الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها " فتشير إلى من يقبل أن ينظر إلى الحياة نظرة الله نفسه ويقبل أن يتبع المسيح في بذل الذَّات حتى الصَّليب، ويتقدَّم للاستشهاد ويقدِّم جسده ذبيحة حيَّة، أو يقمع جسده ويستعبده، أو يصلب أهواءه وشهواته، فانه يُخلص حياته. وفي هذا الصَّدد يقول يوحنا الرَّسُول "لا تُحِبُّوا العَالَم وما في العَالَم. مَن أَحَبَّ العَالَم لم تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ فيه. لأَنَّ كُلَّ ما في العَالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العَالَم. العَالَم يَزولُ هو وشَهَواتُه. أمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد"(1يوحنّا 12: 15-17). يستعمل متى الإنجيلي معنيان متقابلان: خلص حياته، فقد حياته، وهذ يعني أنّ من كان شريكًا للمسيح في الألم والعَذاب والموت كان شريكًا له في القيامة والحياة. نعرف أنَّ آلامنا تخلصنا، كيف؟ إن آلامنا تُصبح لها مفعولٌ خلاصي إن هي اندمجت مع آلام المسيح. وفي الواقع، عندما نقدِّم حياتنا لخدمة يسوع نكتشف الهدف الحقيقي للحياة. أمَّا عبارة " يَجِدُها" فتشير إلى حياة ابديه يجدها المؤمن في العَالَم الآتي. فمن يكرّس حياته في خدمة المسيح في هذا العَالَم يجدها في الحياة الأبدية. ومن يرضى بأن يفقد نفسه، مقدمًا إيَّاها "ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً " (رومة 12: 1) وأن يصَلَب جسده " وما فيه مِن أَهْواءٍ وشَهَوات" (غلاطية 5: 24) سيكون جزاءه في المَجْد السَّماوي، كما جاء في تعليم يسوع " أَنتُم أَيضاً تَحزَنونَ الآن ولكِنِّي سأَعودُ فأَراكُم فتَفَرحُ قُلوبُكم وما مِن أَحَدٍ يسلُبُكم هذا الفَرَح " (يوحنا 22:16) وقد اكّد بولس الرَّسُول هذ القول "لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا" (رومة 8: 17). ومن المتناقضات الظاهرية إن الخضوع للرب هو ربح أكيد لا يفنى. ليست الحياة في الأخذ أو الاحتفاظ، بل في العطاء والبذل. عندما نتبع يسوع إلى النهاية فنحن لا نتبعه إلى الموت فقط، بل إلى المَجْد، حيث إنَّ فقدان الحياة من أجل المسيح هو الحياة. هذه الآية هي من أقوال يسوع الأكيدة لأنها تتكرر في الإنجيل 6 مرات (متى 10: 39، 16: 25، ومرقس 8: 35، ولقا 9: 24، 17: 33 ويوحنا 12: 25). هل نحن مستعدّون إن نموت لأجل المسيح الذي يفتح لنا أبواب الحياة الأبدية؟ ها نعلم إنَّ الخسارة لأجل المسيح هو ربح؟ وان بالعار وبالصَّليب نحصل على إكليل المَجْد؟



26 ماذا يَنفَعُ الإنْسَان لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإنْسَان بَدَلاً لِنَفسِه؟



تشير عبارة "ماذا يَنفَعُ الإنْسَان لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟" إلى سؤال هام ومصيري لانَّ النَّفس في نظر يسوع أهم من العَالَم أجمع. الحياة في نظر الإنْسَان لها قيمة لا تنازع. لذلك يُنبِّه المسيح الإنْسَان بهذه السُّؤال كي يستعمل الحكمة والنَّظر إلى المستقبل في الأمور الرُّوحية، كما يستعملها في الأمور التجارية. أمَّا عبارة " ماذا يَنفَعُ الإنْسَان لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه " فتشير إلى السؤال ما النفع من الحياة الحاضرة دون الأبدية؟ إن ما نكدِّسه على الأرض لا قيمة له في شراء الحياة الأبدية. إن النجاحات على المستوى الشَّخصي والعائلي والاقتصادي والسِّياسي لا يمكن أن تضمن للإنسان الحياة الأبدية. حتى لو حصل الإنْسَان على امتلاك كل كنوز الدنيا، فجميع هذه الكنوز لا تحميه من الموت، ولا يمكن حتى أعلى مراتب الشرف الاجتماعية أو المدنية أن تضمن له الحياة الأبدية. إن عالم المتعة الذي يتركز في الممتلكات والمركز والسلطة، لا قيمة له في النهاية. فالحياة الحاضرة هي التي تُقرِّر مصيرنا الأبدي، إذ هي مقدمة للحياة الأخرى. أمَّا عبارة " العَالَم كُلَّه" فتشير إلى كل ما يمكن الإنْسَان أن يحصل عليه أو يتوقعه في هذه الأرض من لذة أو شرف أو غنى أو رتبة أو سلطة ونفوذ. أمَّا عبارة " خَسِرَ نَفسَه؟" فتشير إلى الموت أو إلى العبور بجانب ما هو أساسي وجوهري، لأنّ إن خسارة النَّفس في هذه الحالة لا تعوَّض. لكن نفس واحدة أثمن من العَالَم كله. أمَّا عبارة "ماذا يُعطي الإنْسَان بَدَلاً لِنَفسِه؟ فتشير إلى الإنْسَان الذي لا يستطيع أن يفدي حياته بشيء، لأنّ الغنى المادي لا يضمن له السَّعادة والرَّاحة في الحياة، ولا أحد يستطيع أن يدفع ثمنًا للحياة الأبدية. الأموال إن ضاعت فيمكن أن تعود، أمَّا هلاك النَّفس فخسارتها لا تعوَّض. فإن هلكت النَّفس، أي ذهبت للجحيم بعد موتها فلا فداء لها. فان خسر الإنْسَان نفسه من خلال تركه المسيح رغبة في العَالَم فاين يجد فداء آخر له؟ أمَّا عبارة " بَدَلاً لِنَفسِه؟ " في الأصل اليوناني ἀντάλλαγμα (معناها ثمن شراء) فتشير إلى شراء أو فداء أو استعادة الحياة المفقودة، كما جاء في سفر المزامير "لا يَفتَدي أَخٌ أَخاه ولا يُعطي اللّهَ فِداه: فِديةُ نُفوسِهم باهِظة وهي لِلأبدِ ناقِصَة"(مزمور 49: 8-9). وقيمة النَّفس غير محدودة فلا شيء في العَالَم يصلح أن يكون فداء عنها إلاَّ موت المسيح عنها. الرَّبّح والخسارة كلاهما كفَّا ميزان الحياة فأي الاثنين تُرجِّح؟



27 ((فسَوفَ يَأتي ابنُ الإنْسَان في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه.



تشير عبارة "فسَوفَ يَأتي" إلى المجيء الثَّاني للمسيح من أجل دينونة العَالَم. أمَّا عبارة "ابنُ الإنْسَان" فتشير إلى المسيح الذي هو وجه سماوي أعطاه الآب سلطته ومجده وقدرته، وسلطة القضاء كديَّان الحياة الأخرى في نهاية العَالَم، كما أعلنه دانيال النبي "كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلاً فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إلى أَمامِه " (دانيال 17: 13). وقد ورد هذا اللقب (84) مرة في الأناجيل. أمَّا عبارة "ابنُ الإنْسَان في مَجدِ أَبيهِ" فتشير إلى المسيح في صورة بشرية ارتفعت في المَجْد (دانيال7: 13) بعد أن عرفت الانحدار في صورة العبد المتألم (أشعيا 53). أما عبارة "مَلائكتُه" فتشير إلى اتباع السَّماويِّين "تواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه" (2 تسالونيقي 1: 7). أمَّا عبارة "يُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه" فتشير إلى يسوع، ابن الإنْسَان، الذي يُدين كل واحد منَّا في اليوم الأخير (متى 25: 31-46)، إذ يجازي الذين تألموا معه بان يجعلهم شركاء مجده، لأنَّه الدَّيان الذي له السلطان ليدين كلَّ العَالَم، ويُكافئ كل واحد منَّا على حسب أعماله الصالحة (متى 7: 18) ويؤكِّد ذلك صاحب المزامير بقوله "لَكَ الرَّحمَةُ أيّها السَّيِّد فإِنَّكَ تُجازي الإنْسَان بِحَسَبِ عَمَلِه" (مزمور 62: 13). إن الجزاء الشخصي مبدأ أدبي متجذِّر في العهد القديم (أمثال 24: 12). وقد أوضحه يسوع في نقطتين: النقطة الأولى: أنَّ يسوع، ابن الإنْسَان هو الذي يُدين كلَّ واحدٍ منَّا في اليوم الأخير (متى 25: 31-46). والثانية، يسوع يُجازي كلَّ واحدٍ منا حسب أعماله الصالحة (متى 6: 4). ومن هذا المنطلق، للمسيح سلطان ليدين كل العَالَم، حيث سيخلص الأبرار ويدين الأشرار في الدينونة الأخيرة. ولا يحسن إن يتوقع الأبرار ثوابهم في هذا العَالَم، لانَّهم لم يوعدوا بنواله إلاَّ عند مجيء الثاني للمسيح، كما جاء في تعليم بولس الرَّسُول "وقَد أُعِدَّ لي إِكْليلُ البِرِّ الَّذي يَجْزيني بِه الرَّبّ الدَّيَّانُ العادِلُ في ذلِكَ اليَوم، لا وَحْدي، بل جَميعَ الَّذينَ اشْتاقوا ظُهورَه"(2 طيموتاوس 4: 8).





ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 16: 21-27)



بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 16: 21-27)، نستنتج انه يتمحور حول إنباء بصليب يسوع وبصليب أتباعه



1) الإنباء بصليب يسوع



بعد إعلان بُطرس لإيمانه في قيصرية فيلبس (متى 16: 13 – 20) بألوهية المسيح أصبح إيمان التَّلاميذ ثابتًا وكافيًا، لإعلان يسوع عن صلبه وآلامه "بَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَة والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21). وقد استخدم الرُّومان الصَّلب لإعدام العبيد عقاباً لهم عن أشنع الجرائم، ولإعدام الثُّوار في البلاد المحتلة. وكان يُعلَّق عليه المجرم حتى يموت من الجوع والعطش والإجهاد. ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " في الماضي كان الصليبُ رمزًا للعقاب، أمّا اليوم فهو رمزُ الشَّرف. في الماضي كان رمزًا للإدانة، أمّا اليوم فهو مبدأ الخلاص، لأنّه مصدر خيرات لا محدودة: لقد نجّانا من الخطيئة، وأنارَنا في الظلمات، وصالَحَنا مع الله. أعادَ الصليب ربط أواصر صداقَتِنا به، وقرَّبَنا إليه من جديد. فالصليب دمار للكراهية، وضمانة للسلام"(عظة عن الصليب وعن اللصّ). الصليب فخر بولس الرَّسول: "فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (غلاطية 6: 14).



كان الذي يُعلَّق على الصَّليب يُحسَب ملعونًا من الرَّبّ حسب المُعتقدات اليهودية، كما جاء في سفر التثنية "وإِذا كانَت على إِنْسانٍ خَطيئَةٌ تَستَوجِبُ المَوت، فقُتِلَ وعلَّقتَه على شَجَرَة עֵץ، فلا تَبِتْ جُثَّتُه على الشَّجَرَة، بل في ذلك اليَومِ تَدفِنُه، لأَنَّ المُعَلَّقَ لَعنَةٌ مِنَ الله" (تثنية الاشتراع 21: 22-23). لذلك فقد جاء المسيح "وافتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة، إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا، فقَد وَرَدَ في الكِتاب: "مَلْعونٌ مَن عُلِّقَ على الخَشَبَة ξύλου " (غلاطية 3: 13). إذاً، فهذا الصَّليب الذي كان أداة التَّعذيب وعلامة اللعنة صار أداةً للخلاص والفداء، ولكنه ما زال "عِثارٍ لِليَهود وحَماقةٍ لِلوَثنِيِّين، وأَمَّا لِلمَدعُوِّين، يَهودًا كانوا أَم يونانِيِّين، فهُو مسيح، قُدرَةُ اللّه وحِكمَةُ اللّه،" (1 قورنتس 1: 23-24). لقد ضحَّى يسوع بحياته على الصَّليب من أجل خلاص البشرية محبةً لهم (يوحنا 19: 26). ويُعلق البابا بندكتس "إن الصَّليب هو الإعلان المُؤكد للمحبَّة والرَّحمة الإلهية".



أشار مرقس الإنجيلي أيضًا في هذا الإنباء إلى المعاملة السيِّئة التي لقيها يسوع " فَيسخَرونَ مِنه، ويَبصُقونَ علَيه ويَجلِدونَه ويَقتُلونَه، وبَعدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقوم" (مرقس 10: 34). ويتطابق موت المسيح مع نبوات دانيال. فالمسيح يجب أن يُقتل " يُفصَلُ مَسيحٌ ولا يَكونُ لَه" (دانيال 9: 26) ثم يأتي وقت ضيق " تكونُ شَناعَة الخَراب" (دانيال 9: 27)، وسيأتي أخيرًا في المَجْد " فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء"(دانيال 7: 13). إنَّ كلمات الإنباءات قريبة من اعترافات الإيمان المسيحي الأولى، قريبة مِمَّا يُسمَّى الكرازة الأولى Kerygma وهي ملخصٌ ما كان يقوله المسيحيُّون حين يُبشِّرون بيسوع " مات وقام". ويذكرون كل مرة القيامة بعد الآلام. ويعلق القدّيس كيرلُّس الأورشليمي " لم يكن الصليب خدعةً، وإلاّ لكان الفداء أيضًا خدعة. لم يكن الموت وهمًا. بل كانت آلام المسيح حقيقيّة. فقد صُلِبَ المسيح فعلاً، وعلينا ألاّ نخجل من ذلك. لقد صُلِبَ من أجلنا، وعلينا ألاّ ننكر ذلك، بل يجب أن نعلنه بكلّ فخرٍ. فنحن نعترف بالصليب لأنّنا اختبرنا القيامة. لو بقي المصلوب ميتًا، لما كنّا اعترفنا بالصليب، بل كنّا أخفيناه وأخفينا سيّدنا يسوع المسيح. لكنّ القيامة جاءت بعد الصليب، ولا نخجل من الحديث عنه"(التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر). قد سُمِّر يسوع فعلاً على الصليب في عهد بيلاطس البنطي والملك هيرودس انتيباس.



بهذا الإنباء أفهم يسوع تلاميذه أنَّه لن يقوم بمهمته كمسيح إلاَّ عن طريق الآلام والموت على الصَّليب، لانَّ سر الصَّليب هو إيفاء العدل الإلهي الذي حقَّقه المسيح بموته ونيل الحياة الأبدية للمؤمنين بذلك. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبي الفم: " صحيح. الصَّليب هو سرّ يفوق العقل البشري، وعلامة قوّة تتخطّى إدراكنا" (العظة رقم 4 عن الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس). أعلن يسوع لتلاميذه ما سيُعانيه في أُورَشَليم من المٍ وعذابٍ وظُلم واضطهاد. وأوضح لهم من هو، وأنَّه أتى ليؤسِّس كنيسته، وان ثمن تأسيس الكنيسة هو الصَّليب. وقبل أن يتوهم تلاميذه إذ سمعوا أنه المسيح المنتظر، يصير ملكًا وقائدًا عظيمًا، وأنهم سيملكون معه، ها هو يشرح لهم أنه حقًا سيملك، ولكن على قلوب كنيسته بصليبه، حاملاً الرِّئاسة على كتفه كما تنبأ أشعيا: "لِأَنَّه قد وُلدَ لَنا وَلَدٌ وأُعطِيَ لَنا آبنٌ فصارَتِ الرِّئاسةُ على كَتِفِه ودُعِيَ أسمُه عَجيبًا مُشيرًا إِلهاً جَبَّارًا، أَبا الأَبَد، رَئيسَ السَّلام" (أشعيا 9: 5)؛ فبصليبه هدم مملكة الخطيئة ومملكة إبليس وأقام ملكوت قيامته. وفي هذا الصَّدد قال القديس بُطرس الرَّسُول "هو الَّذي حَمَلَ خَطايانا في جَسَدِه على الخَشَبة لِكَي نَموتَ عن خَطايانا فنَحْيا لِلبِرّ" (1بُطرس 2: 24).



ويُعلق القدّيس أمبروسيوس "إنّ كتفَيّ الرّب يسوع هما ذراعيّ الصليب: هناك أَلقيتُ خطاياي، وعلى عنق هذا الصليب النبيل استَرحْتُ "((تعليق على إنجيل القدّيس لوقا). وهذا الإنباء بالآلام والموت على الصَّليب والقيامة تكرَّر ثلاث مرات (متى 17: 22، 20: 18) كلازمة تتردَّد في طريق صعود يسوع إلى أُورَشَليم، مكان آلامه وصلبه وموته وقيامته، لأنَّ رسالته قد تُثير توقعات مسيحانية سياسية بعيدة عن هدفها الحقيقي، ألا وهو تحقيق ملكوت الله، أي الخلاص.



كان الهدف من تلك الإنباءات هو تبديد ظن التَّلاميذ أنَّ المسيح المنتظر ليس مسيحًا سياسيًا بل مسيحًا متألمًا. إذ لم تكن آلام يسوع حدثًا طارئًا أو صدفة ولا مصيرًا محتومًا، إنَّما هو مخطَّط الله الذي يُحقِّقه يسوع بطاعته لمشيئة الله في هذه الآلام لأجل خلاص البشر. ويُشدِّد يسوع من خلال هذه الإنباءات على الطريق التي تقود المؤمن إلى مَجْد، لآن الآلام والصَّليب والرَّذل والتعيير والموت الشنيع، كل هذه الأمور تتبعها القيامة. ومن هذا المنطلق، لم يُقدِّم يسوع سر آلامه قيامته كوحي عن رسالته فحسب، إنما أيضا دلالة على الطريق الواجب تلاميذه إتِّباعه. فطريق الآلام هي طريق للقيامة، ولا طريق آخر غير هذا له ولتلاميذه. وطريق يسوع هو طريق تلاميذه. وفي كل إنباء بيّن يسوع لتلاميذه أنَّ عليهم أن يسيروا على الطريق نفسه. وهكذا جمع متى الإنجيلي تعليم يسوع بين السلوك العملي ومتطلبات الإيمان بالمسيح المَصلوب والقائم من الموت.





2) الإنباء بصَليب أتباعه



طلب يسوع من تلاميذه أن يتبعوه ويتألموا معه، وذلك من خلال أربعة أقوال : الأقوال الثلاثة الأولى تتركز على الزُّهد في الذَّات وحمل الصَّليب مع يسوع. والقول الأخير يتناول مجد القيامة.



ا) الزُّهد في الذَّات وحمل الصَّليب



القول الأول: "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24).



يشترط يسوع لمن يريد أن يتبعه أن يزهد في نفسه. وهذا الأمر يتطلب منه أن يقطع كل ما يشدُّ الإنْسَان إلى العَالَم الأرضي والأسرة والمَال ومَسرَّات هذا الدهر:" لا تُحِبُّوا العَالَم وما في العَالَم. مَن أَحَبَّ العَالَم لم تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ فيه. لأَنَّ كُلَّ ما في العَالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العَالَم. العَالَم يَزولُ هو وشَهَواتُه. أَمَّا مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله فإِنَّه يَبْقى مَدى الأبد" (1 يوحنا 2: 15-17). ويُعلق الرَّاهب الدومنيكاني جان تولير "عليك التَّخلّي أوّلاً عن كلّ خيرٍ خارجيّ أو داخليّ تعلّقتَ به، واضعًا فيه كلّ الرضى. هذا التخلّي صليب مؤلم، وهو أكثر إيلامًا كلّما كان التعلّق أشدّ وأقوى"(العظة 59، الرّابعة بمناسبة عيد ارتفاع الصَّليب). فالزُّهد في النَّفس معناه أنّنا في كلّ لحظة من حياتنا نقول (لا) للذات، ونقول (نعم) للربّ. فالزُّهد في النَّفس يعني إنزال الذَّات من على العرش، وتمليك الرَّبّ على هذا العرش، وبكلمة أخرى، هو اتِّخاذ إنجيل التَّطويبات قاعدة للحياة.



يشترط يسوع لمن يريد أن يتبعه أن يحمل صليبه كما حمله هو، وان يكون مستعدًا لحَمْل صليب طبيعته الساقطة الخاطئة ومفتخرًا بضعفه التي لا خلاص له إلاَّ بالثَّبات في المسيح. وبدعوة يسوع تلميذه لحمل صَليبه، فإنه يدعوه إلى معرفة يسوع وقوة قيامته وشركة آلامه متشبِّهين بموته، كما جاء في تصريح بولس الرَّسُول" فأَعرِفَهُ وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه (فيلبّي 3: 10)، وإنّ حَمْلنا صليبنا هو شركة في آلام المسيح وموته وقيامته. وفي هذا الصَّدد يقول بولس الرَّسُول " فإِنِّي أَفتَخِرُ راضِيًا بِحالاتِ ضُعْفي لِتَحِلَّ بي قُدرَةُ المَسيح" (2 قورنتس 12: 9).



يستخدم يسوع أسلوب الإقناع مع تلاميذه، إذ قبْل تقرير المصير لمن يريد أن يتبعه، يطلب يسوع منه أن يعرف بمن يتبع، ويُبرهن عن أنَّه يستطيع ذلك فيشترط عليه الزُّهد: "فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه"(متى 16: 24).



هناك وجهان للزُهد: الوجه الداخلي هو أن يزهد الإنْسَان بنفسه، ويُعلق أحد المفسرين "يزهد الإنْسَان في نفسه عندما يُحبُّ الله، ويُحبُّ الله عندما يُبغض المَرء شهواته الجَسدية. تكمن في داخلنا وفي أفكارنا وقلوبنا وإرادتنا قوّةٌ غير عادية تعمل دائمًا كلَّ يوم، وفي كل لحظة، لإبعادنا عن الله؛ تقترح هذه القوة علينا أفكارًا ورغبات واهتمامات ونيّات ومشاغل وكلمات، وأعمال باطلة تُثُير فينا الشَّهوات، وتدفعها بعنفٍ فينا، مثل المكْر والحَسد والطَّمع والكِبرياء والمَجْد البَاطل والكَسل والعِصيان والعِناد والخِداع والغَضب". أمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فيُعلق "يزهد الإنْسَان في نفسه عندما لا يهتمّ بجسده متى جُلد أو احتمل آلامًا مُشابهة، إنّما يحتملها بصبر".



أمَّا الوجه الخارجي في اتباع يسوع فهو أن يحمل الإنسان صَليبه. الصَّليب الذي عليه أن يحمله: إنه صليبه الخاص؛ صليب طبيعته الساقطة الضَّعيفة التي لا خلاص لها إلاَّ بالثَّبات في المسيح. وهذا الأمر يتطلب والاعتراف الدَّائم انه دون المسيح يعجز المرء عن البلوغ إلى الِبرِّ والقداسة، كما صرّح يسوع " بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنّا 15: 5). ويعلق القدّيس قيصاريوس، راهب وأسقف آرل " ما معنى "يَحمِلْ صليبَه"؟ فيجيب باسم يسوع "أن يتحمّل كلّ ما يزعجه، هكذا سيتبعني. حين يتبعني، ملتزمًا بحياتي وبوصاياي، سيجد على الطريق أشخاصًا كثيرين سيعارضونه ويُحاولون تغيير مساره، أشخاصًا لن يكتفوا بأن يَسخروا منه، لكنّهم سيضطهدونه" (العظة 159).



لا ولن يقدر أحد أن يحمل صليب المسيح سوى المسيح، وهو الذي حمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرَّته عن البشرية كلها " لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنّا 3: 16)، ويُعلق القديس يوحنا الذَّهبي الفم " كأن يسوع يقول لبُطرس: أنت تنتهرني، لأنِّي أريد أن أتألّم، لكنّني أخبرك، بأنَّه ليس فقط من الخطأ أن تمنعني عن الآلام، وإنما أقول لك أنك لن تقدر أن تخلُص ما لم تمُت أنت أيضًا". لا يقدر أحد أن يتبع السَّيد المسيح ما لم يدخل دائرة الصَّليب، وقد أكَّد ذلك يسوع بقوله " مَن لم يَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني، فلَيسَ أَهْلاً لي" (متى 10: 38). ويُوضح القدّيس بونافَنتورا من خلال سيرة القديس فرنسيس معنى حمل الصَّليب "ليس عذاب جسد فرنسيس مَن سوف يحوّله ليتشبّه بالمسيح مصلوبًا، إنّما المحبّة التي تلهب قلبه هي التّي سوف تقوم بذلك "(حياة القدّيس فرنسيس).



القول الثاني: "لأَنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذي يَفقِدُ حَياتَهُ في سبيلي فإِنَّه يَجِدُها" (متى 16: 25)؛



لماذا يطلب يسوع من الإنْسَان أن يُضحِّي بنفسه؟ يطلب يسوع من تلميذه أن يضحِّي بنفسه لكي يكون مستعدًا لبذل الذَّات حتى الموت. وهذا الأمر يقتضي من التِّلميذ تخصيص جميع الموارد الفكريّة، والإرادة، والقلب، والخيرات الروحيّة والمَاديّة، والحُرّيّة الشَّخصيّة، للرَّبّ، لأن يسوع وحده يستطيع أن يخلِّص حياة الإنْسَان، كما جاء في تعليم يوحنا الرَّسُول "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العَالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة " (يوحنّا 12: 25). لقد جاء المسيح إلى العَالَم " لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنّا 10: 11). لا تتوقف النظرة عند حدِّ الآلام بل تتجاوزها إلى القيامة. فالمسيح قام والتَّلاميذ سيقومون كما قام المسيح " لذا صرّح يولس الرَّسُول عن إيمانه بقوله "الحَياةُ عِندي هي المسيح، والمَوتُ رِبْح" (فيلبي 1: 21). يعلق القدّيس توما الأكوينيّ اللاهوتيّ " يتمجّد بعض الناس بمعرفتهم؛ لكنّ بولس الرَّسول يجد المعرفة السامية في الصليب. فقد قال" فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب"(1 قورنتس 2: 2) (تعليق على الرسالة إلى أهل غلاطية، الفصل 6).



القول الثالث: "ماذا يَنفَعُ الإنْسَان لو رَبِحَ العَالَم كُلَّه وخَسِرَ نَفسَه؟ وماذا يُعطي الإنْسَان بَدَلاً لِنَفسِه؟ (متى 16: 26).



ما فائدة زُهد المرء في نفسه وحمل صليبه؟ يجيب المسيح فمن يحمل صليبه ويُضحِّى بحياته أمانة ليسوع والإنجيل البشير لا يخسر حياته، إنَّما يربحها للحياة الأبدية. وهذا ما اختبره بولس الرَّسُول "أَنَّ ما كانَ في كُلِّ ذلِكَ مِن رِبْحٍ لي عَدَدتُه خُسْرانًا مِن أَجلِ المسيح" (فيلبّي 3: 7)؛ إن صليب التَّلاميذ هو صليب التناقض بين من "يربح يخسر؛ وبين "يخسر يربح"؛ وخير مثال على ذلك فإن إسكندر المقدوني استطاع أن ينطلق في مغامرة رائعة فاحتلَّ الكوْنَ كلَّه، ولكنَّه مات. فماذا نردُّ لمن فقد حياته؟ ماذا ندفع له لكي يجدها ثانية؟ هذا مستحيل. الحياة أثمن ما لدى الإنْسَان، أمَّا المسيح فهو الذي يُعطي الإنْسَان سبيلاً لخلاصها، وهذا السبيل هو أن يَزْهد المرء في حياته، ويحمل صليبه من أجل يسوع وإنجيله الطاهر.



كلُّ موت في سبيل يسوع تعقبه قيامة وحياة. لذلك كتب القدّيس أغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى أهل روما في وقت استشهاده: "ماذا تُفيد لي ملذّات العَالَم؟ ما لي وفتنة ممالك هذا العَالَم؟ إني أُفضِّل أن أموت مع المسيح من أن أملك أطراف المَسكونة، إني أطلب المسيح الذي مات من أجلنا، وقام أيضًا من أجلنا. ... إني أريد أن أكون لله. لا تتركوني في العَالَم، لا تتركوني ومُغريات الأرض. دعوني أبْلغ إلى النور النَّقي". هذا هو الصَّليب الذي ينتظر يسوع منا، وهذا هو الاضطهاد الذي ينتظر المسيحيين. يجب أن نضحِّي بحياتنا في سبيل ولائنا وإخلاصنا ليسوع وإنجيله الشريف، لأنّ خلاصنا هو على هذا الصليب. " لقد نال المسيح بصليبه المجيد، الخلاص لكلّ البشر. وفداهم من الخطيئة التي كانت تستعبدهم" (تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة فقرة 1730).



إن دعانا يسوع إلى التضحية بحياتنا، هذا يعني أن يسوع له القدرة على خلاصها، وهذه هي القيامة حقًا التي تنتظر يسوع، وتنتظر تلاميذه. لا يقتصر حمل الصَّليب على التَّلاميذ فقط، بل على الجموع أيضًا. إن يسوع يوجّه كلامه إلى الجميع، ولا يستثني أحدًا، لان الوجود المسيحي هو رهن بوجود يسوع، ولذلك يتوجب على المسيحي أن يتبع المسيح، ويقتدي به، ويتحد به اتحادًا وثيقًا لنيل نعمة القيامة معه.



ب) مجد القيامة



القول الرابع "فسَوفَ يَأتي ابنُ الإنْسَان في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه" (متى 16: 27).



ربط يسوع بين مصير التَّلاميذ ومصيره حيث أنَّهم إن لم يزهدوا من أجله في أنفسهم ويحملوا صليبهم، فهم ليسوا تلاميذه ولا هم مُحبُّوه. وحيث أنَّ كل موت من أجل المسيح تعقبه قيامة وحياة، يلزم أولاً هدم الإنْسَان القديم للحياة في الإنْسَان الجديد، خلال صَليب ربّنا يسوع المسيح وقيامته. فما نعيشه الآن في المسيح يسوع خلال الإيمان ننعم به في كمال المَجْد خلال القيامة. ويُعلق القدّيس كيرلُّس الأُورَشَليمي "نحن نعترف بالصَّليب، لأنّنا اختبرنا القيامة. لو بقي المَصلوب مَيتًا، لما كنّا اعترفنا بالصَّليب، بل كنّا أخفيناه، وأخفينا سيّدنا يسوع المسيح. لكنّ القيامة جاءت بعد الصَّليب، ولا نخجل من الحديث عنه" (التعليم المسيحي العمادي الثالث عشر).



إن كان الإيمان هو أساس الملكوت يلزم أن يكون "عَمليًا"، أي من خلال الزُّهد في النَّفس وحمْل الصَّليب واتِّباع يسوع حتى يقدّم لنا السيّد الأكاليل الأبديّة مُجازيًا " الإنْسَان بِحَسَبِ عَمَلِه"(مزمور 62: 13). فالملكوت السَّماوي ليس غريبًا عن المَلكوت الدَّاخلي بل اِمتداد له. إن كان السيّد المسيح قد دفع تكلفة المَلكوت على الصَّليب، فإنّنا لا ننعم بهذا المَلكوت، ولا ننمو فيه ما لم نشترك إيجابيًا فيه بحمل الصَّليب مع عريس المَلكوت المَصلوب.



نستنتج مما سبق أنَّ يسوع يتنبأ هنا عن صليبه، ويتحدث مباشرة عن صَليب تلاميذه، لانَّ الصَّليب هو طريق المَجْد الوحيد، ألم يقُل "أَما كانَ يَجِبُ على المَسيحِ أَن يُعانِيَ تِلكَ الآلام فيَدخُلَ في مَجدِه؟" (لوقا 24: 26)، وهو صليب تلاميذه أيضًا على خُطاه. وسيتحمل التَّلاميذ نفس الآلام كمعلمهم وسيكافئون مثله في النهاية. فالألم والموت سيتحوَّل إلى مَجد القيامة. الموت والقيامة هما قلب الإنجيل، ونواة الإيمان في الجماعة المسيحية الأولى. إن حدث الصَّليب والقيامة يدوم ويجتذب إلى الحياة كل شيء، كما جاء في تعليم المسيحي الكاثوليكي (بند 1085).





الخلاصة



بعد أن اعترف بُطرس والرُّسل أنَّ يسوع هو المسيح، أخذ يُعلمهم أنه، مع كونه نبيا وملكا، ينبغي أن يُمارس وظيفته الكهنوتية، أي لا بُدَّ من انه يتألم قبل أن يملك بدليل قوله: "يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم ويُعانِيَ آلاماً شَديدة مِنَ الشُّيوخِ وعُظَماءِ الكَهَنَة والكَتَبَة ويُقتَلَ ويقومَ في اليومِ الثَّالث" (متى 16: 21).



كان من الصعب على بُطرس، ومن الصَّعب علينا أيضًا قبول طريق الآلام التي تكلَّم عنها يسوع. أعلن السيّد ملكوته، بكونه هدمًا وبناءً، اِقتلاعًا وغرسًا، فيه يُهدم الإنْسَان القديم بأعماله لكي يقوم الإنْسَان الجديد؛ فإن تكلفة هذا الملكوت هو "الصَّلب".



نحن نتصعب أيضًا في قبول الصَّلب، لأنَّه يُناقض ما نشعر به طبيعيًا من ميل إلى إثبات الذَّات. إنّ المسيح موجودٌ على الصَّليب، وطالما نحن لا نحبّ الصَّليب، فإنّنا لن نراه، ولن نشعر به. لذلك فإنَّ أول ما يطلبه الإنجيل مِنَّا هو تغيير عقليتنا في النظر إلى يسوع. وإن دخلنا أكثر في عمق إيماننا، والذي هو آلام المسيح وموته وقيامته، نرى أنه يجب علينا ألاَّ نعتبر المسيح مجرّد صانع المعجزات أو نبيًا، بل علينا أن نكتشف أنَّ المسيح من خلال الآمه وموته وقيامته حقَّق خلاصنا من الموت الأبدي. ويعلق القدّيس أفرام السريانيّ "الصَّليب، جسرٌ امتد فوق هاوية الموت" (عظة عن الرَّبّ).



إننا بغير الصَّليب لا نكون من تلاميذ المسيح ومُحبِّيه، وقد جُعل الصَّليب آلة للحياة، ووسيلة للنجاة. "الكنيسة لا يُمكن أن تستمرّ بدون الصَّليب تمامًا، كالسفينة التي تفقد صلابتها بدون السَّارية"، كما يعلق القدّيس مكسيموس الطورينيّ (العظة 38 ). نذهب ّ صوب المَجْد بالآلام والصَّليب. فالصَّليب كان طريق المسيح نحو السّماء، وهو طريق تلاميذه أيضًا، لذلك افتخر بولس الرَّسُول بالصَّليب بقوله: " أَمَّا أَنا فمَعاذَ اللهِ أَن أَفتَخِرَ إِلاَّ بِصَليبِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! ِ" (غلاطية 6: 14). ومن هذا المنطلق، إن قلب الإيمان المسيحي هو قبول الصَّليب والموت كما قبلهما المسيح للحصول على الخلاص والحياة الأبدية.





دعاء



جدّدنا، أيّها الآب السَّماوي كي نترك أفكارنا الشَّخصية البشرية، ونستجيب لنِداء ابنك يسوع المسيح، فنزهد في نفوسنا ونحمل صَليبنا كلّ يوم ونسير على خُطاه هو الذي مات من أجلنا على الصَّليب مُتيقّنين ً أن الصَّليب هو الطريق المؤدي للحياة الأبدية. فليعضد الرَّبّ بصليبه المقدس جميع الّذين يُعانون في الجسد والروح، والمشرّدين والمُهجّرين والمُهمّشين، والعَاطلين عن العَمل، والمَرضى والمُنازعين. آمين.





قصة: التاجر وبُطرس



يُروى أنّ تاجراً كان يهتمّ بتجارته بحيث جعلته ينسى حياته الرُّوحية، فلمّا مات كتب أحدهم على قبره "وُلد إنسانًا ومات تاجرًا كبيرًا". لقد صُنع الإنْسَان على صورة الرَّبّ، فما أتعس حالة ذاك الّذي يفقد إيمانه بالحياة الأبدية في سبيل الحياة الأرضية. وبالعكس ما أعظم من يبذل حياته في سيبل الحياة الأبدية.



يقال إن الإمبراطور نيرون حين أراد قتل بُطرس الرَّسُول، اقنع المؤمنون في روما بُطرس بالهرب، فهرب بُطرس، وعلى أبواب روما رأى السيد المسيح مُتجهًا إلى روما. فسأله إلى أين؟ فقال أنا ذاهب لأصُلب بدلًا منك. فعاد بُطرس وسَّلم نفسه، وطلب أن يُصلب معكوس الرأس تشبُّهًا واحترامًا لمعلمه يسوع المسيح المَصلوب.

رد مع اقتباس
قديم 08 - 09 - 2023, 06:30 AM   رقم المشاركة : ( 2 )
جوزيف جوزيف Male
سراج مضئ | الفرح المسيحى

الصورة الرمزية جوزيف جوزيف

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 123632
تـاريخ التسجيـل : Dec 2017
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : لبنان
المشاركـــــــات : 732

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

جوزيف جوزيف غير متواجد حالياً

افتراضي رد: صَليبُ يسوع وصَليبُ أَتبَاعه

امين امين
الرب يباركك ويبارك خدمتك
  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
يسوع الطريق يسوع الحق يسوع فيه الحياة👌🏻
" فسَخَّروه أَن يَحمِلَ صَليبَ يسوع" في الكتاب المقدس
يسوع ملك الملوك يسوع ملك السلام يسوع نور العالم
يسوع هو الطريق يسوع هو الحياة يسوع هو الحق
يسوع هو الحب يسوع هو الراحة يسوع هو الحضن الدافى


الساعة الآن 05:06 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024