منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28 - 03 - 2024, 02:29 PM   رقم المشاركة : ( 155791 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




القدِّيس أوغسطين(1) تلميذ بولس الرسول

عرف العالمُ اللاتينيُّ في نهاية القرن الرابع وفي بداية القرن الخامس، مفسِّرين عديدين للرسائل البولسيَّة: ماريوس فكتورينوس(2)، الإمبروزيَستر(3) الكاتب المغفَّل لتفاسير وُجدت في كودكس بودابست (هنغاريا أو المجر)، جيروم، بيلاج. ويُضاف إلى هذه التفاسير اللاتينيَّة(4) ترجمة روفين لتفسير أوريجان حول رسالة بولس إلى أهل رومة. وتساءلنا مرارًا حول هذا الاهتمام الكبير بالقدِّيس بولس في القرن 4-5، تجاه الأنتيبولسيَّة(5) في القرن الثاني، مع تفاسير نادرة، لبولس في القرن الثالث(6). ما يفسِّر ذلك، بلا شكّ، هو الجدالات العقائديَّة حول شخص المسيح ومسألة الخلاص، ثمَّ الاهتمام بتقديم مثال الحياة المسيحيَّة. وهكذا يُقدَّم بولس على أنَّه نموذج الاهتداء إلى الربّ، والمعلِّم.

في هذا السياق نحدِّد موقع اهتمام أوغسطين ببولس، ولكنَّنا لا نكتفي بالكلام عن الاهتمام. ففي تفسير مزمور 147 لا يتردَّد أوغسطين في أن يقول لسامعيه: »ما من شيء معروف لنا أكثر من ]بولس الرسول[، ما من شيء أحلى، ما من شيء في الأسفار المقدَّسة أقرب إلينا«. في الحقيقة، بولس هو في نظر أوغسطين »معلِّم« كما سوف نبيِّن. ومن المستحيل في حدود هذا المقال أن نتفحَّص بشكل منهجيٍّ تفسير أوغسطين للرسائل البولسيَّة(7)، أو أن نقابله مع تفسير معاصريه(8). فالدراسات كثيرة. ولكن نودُّ أن نبرز دور بولس الحاسم في حياة أوغسطين وفكره: في اهتدائه أوَّلاً، في تكوينه اللاهوتيّ ثانيًا، وفي فساره الكتابيّ وفي تعليمه عن النعمة.

1. دور بولس في اهتداء القدِّيس أوغسطين

شدَّد الكتابان السابع والثامن في الاعترافات على الدور الحاسم الذي لعبته قراءة بولس في اهتداء أوغسطين. هناك جدال حول الخبر في الكتاب الثامن ونحن لا ندخل فيه(9)، بل نتجاوز خيارًا بسيطًا جدٌّا بين التاريخ والخدعة الأدبيَّة فندرك أنَّ حقيقة الخبر لا تنفي كلِّيٌّا وضعه في شكل أدبيٍّ وصياغته اللاهوتيَّة(10). فالاعترافات بما هي خبر، تكشف في أيِّ حال أهمِّيَّة بولس في الطريقة التي بها فهم أوغسطينُ اهتداءه وتحدَّث عنه.

تمسَّكتُ إذًا بجوع كبير بمؤلَّفات روحك الجليلة، وقبْلَها كلِّها بمؤلَّفات بولس الرسول. حينئذٍ اختفت الصعوبات التي كانت لي في يوم من الأيّام، حين بدا لي هذا في تعارض مع نفسه وفي لاتوافق مع شهادات الشريعة والأنبياء، في مضمون أقواله الأدبيّ. ورأيتُ أمامي، تحت وجه واحد، الأقوالَ المقدَّسة، وتعلَّمتُ أن »أنشد وأنا أرتجف«. فشرعتُ أقرأ واكتشفتُ أنَّ كلَّ ما قرأت من حقيقة عند الأفلاطونيِّين قد قيل هنا، ولكن مع تقييم نعمتك بحيث إنَّ ذاك الذي يرى لا »يفتخر«، وكأنَّه ما نال شيئًا. لا ما يرى بل أيضًا أن يرى، »فما الذي ناله وما أخذه«؟ وبحيث أنت يا من هو هو، يُدفَع إلى أن يراك بل يشقى لكي يمتلكك، وبحيث أنَّ هذا الذي لا يقدر أن يرى من بعيد، يمشي، مع ذلك، في الطريق التي فيها يمكن أن يأتي ويرى ويمتلك. فحتّى وإن ذاق الإنسان »شريعة الله بحسب الإنسان الباطنيّ«، فماذا يفعل »بالشريعة الأخرى التي تحارب في أعضائه شريعة روحه وتجعله سجين شريعة الخطيئة التي في أعضائه؟« ]...[ بعدالةٍ سُلِّمنا إلى الخاطئ العتيق، إلى أركون الموت، لأنَّه أقنع إرادتنا بأن تتوافق مع إرادته، التي رفضَتْ أن نلبث في حقيقتك. فماذا يصنعُ الإنسان في شقائه؟ من ينجِّيه من جسد الموت هذا سوى نعمتك بيسوع المسيح ربِّنا.(11)

إنَّ قراءة الردُّ على الأكاديميِّين(12) تشير إلى أنَّ هدف أوغسطين الأوَّل حين قرأ بولس، كان أن يتفحَّص إذا كان الرسول في تعارض مع »الخير الأسمى« الذي كشفه له الأفلاطونيُّون: وهو تعارض اعتبره أوغسطين مستحيلاً بالنظر إلى طريقة عيش المسيحيِّين. وشدَّد الكتاب السابع من الاعترافات، بشكل إضافيّ، على ضرورة تجاوز انتقاد المانويِّين، الذين اهتمُّوا اهتمامًا كبيرًا ببولس، واعتبروا أنَّه كان في تعارض مع نفسه ومع العهد القديم. فقاموا بقراءة نقديَّة لرسائله، وشجبوا التحريفات التي فيها(13). فهدفُ قراءة بولس، في نظر أوغسطين سنة 386، كان واضحًا: مواجهة مع طروح الأفلاطونيِّين، وإقامة تفسير جديد للتحرُّر من تفسير المانويِّين. وجاءت نتائج هذه القراءة حاسمة: أدرك أوغسطين وحدة الكتب المقدَّسة التي بدت له منذ الآن في »وجه واحد«(14). ما بدا له بولس فقط في تعارض مع الأفلاطونيِّين، بل كشف فيه ما يمكن أن يشفي عجزه لمشاهدة الحقيقة مشاهدة متداومة. وفهم أنَّ عجزه لا يقوم فيه بالتعارض بين طبيعتين، كما قال تفسير المانويِّين لبولس(15)، بل بتناقض أدخله الإنسان في ذاته بقرار حرٍّ، ولا يستطيع أن يحرِّره منه إلاَّ المسيح. إذًا، فسَّر بشكل مختلف الانقسام البولسيَّ بين اللحم (والدم) والروح والخلاص الذي يحمله المسيح.

وهنا لا بدَّ من إبراز دور المسيح المركزيّ: فهو »الطريق« والخلاص. وحين قام أوغسطين بجردة حساب لما وجد ولما لم يجد عند الأفلاطونيِّين(16)، شدَّد، عائدًا إلى فل 2: 6-11 ورو 5: 6 ورو 8:32، أنه إن كان الافلاطونيون أتاحوا له أن يستشفّ الحقيقة الالهيّة، فهم ما عرّفوه بمن هو الطريق: المسيح المتواضع، الذي مات عن الأشرار(17) وهو »الوسيط بين الله والبشر«(18). فمركزيَّة المسيح عند أوغسطين التي تظهر هنا والتي هي ثابتة من ثوابت فكره(19)، يجب أن تكون في علامة بولس في حياته وفي مؤلَّفاته.

ويختم أوغسطين خبر قراءته لبولس في نهاية الكتاب السابع من الاعترافات فيقول: »دخلتْ فيَّ هذه الأمورُ حتَّى الأمعاء بشكل مفاجئ حين كنت أقرأ »أصغر رسلك«(20). فاستطاع حينئذٍ أن يبيِّن في الكتاب الثامن كيف أنَّ امتلاك ألفاظ بولس، لعب دورًا حاسمًا في اهتداء إرادته، وصُوِّرت هذه القراءة الآن على أنَّها خبرة وجوديَّة. فاكتشف أوغسطين نفسه في ألفاظ الرسالة إلى غلاطية: »]...[ حين اختبرتُ بنفسي فهمتُ ما قرأتُ من قبل كيف أنَّ »اللحم (والدم) يشتهي ضدَّ الروح والروح ضدَّ اللحم (والدم)«(21). فبحسب الكتاب الثامن، حصل الاهتداء حين طبَّق أوغسطين على نفسه رو 13: 13-14: »لا للبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد، بل البسوا الربَّ يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات« (اعترافات 8/12: 29). فكما أنَّ بولس أحسَّ بانقلاب بصوتٍ جاء من فوق فاهتدى، صوَّر أوغسطين نفسه وكأنَّه تحوَّل فجأة بعد أن سمع صوتًا آتيًا من البيت القريب(22) يكرِّر: »خذ واقرأ«. عندئذٍ قرأ هذه الكلمات في الرسالة إلى رومة. لا نشدِّد أكثر من اللزوم على التقابل بين خبر أع 9 وخبر الكتاب الثامن، ولكن يمكن القول إنَّ أوغسطين فسَّر سيرته الشخصيَّة على ضوء سيرة بولس. هذا يعني أهمِّيَّة بولس في مسيرة أوغسطين.

2. دور بولس في تكوين أوغسطين اللاهوتيّ

يكفي أن نعدِّد عناوين أولى مقالات أوغسطين التأويليَّة، لنلاحظ المكانة التي تحتلُّها الرسائل البولسيَّة. فبين سنة 394 وسنة 396، شرح أوغسطين ثلاث مرَّات الرسالة إلى رومة بشكل جزئيّ. وشرح الرسالة إلى غلاطية كلَّها، وردَّ على أسئلة إخوته حول نصوص بولسيَّة متنوِّعة في 83 أسئلة مختلفة(23). ونحن نعرف أنَّه قبل أن يكتب عَرْضَ الرسالة إلى غلاطية(24)، قرأ شرح جيروم لهذه الرسالة، كما عاد، على ما يبدو، إلى شرح ماريوس فكتورينوس (حاشية 1). ووُجدت نقاط اتِّصال بين الإمبروسياستر (حاشية 2) وعرض بعض الأمور من الرسالة إلى رومة(25)، ولاسيَّما في النظرة إلى معرفة الله المسبقة(26). غير أنَّ أوغسطين لبث حرٌّا بالنسبة إلى مراجعه، ولاسيَّما في تفسير بولس. ولا بدَّ أيضًا من الأخذ بعين الاعتبار تأثير قاعدة تيكونيوس الثالثة(27) »المواعيد والشريعة« التي نستشفُّ آثارها في تدوين الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس (حاشية 21). فهذه الدراسة المعمَّقة لبولس دلَّت على اهتمام التكوين اللاهوتيّ عند أوغسطين(28) كما نفهمها في اهتمام راعويّ (ردود إلى إخوته) وضرورة تجاوز التفسير المانويّ لبولس.

أ - تفسير الرسالة إلى رومة

أكثر رسالة شرحها بولس هي الرسالة إلى رومة. فإلى رومة تشرح مطوَّلاً ف 7-8، ولكنَّه يترك جانبًا آيات هامَّة مثل 1: 17؛ 3: 21-28 ثمَّ 5: 12. أمّا العرض المرسوم للرسالة إلى الرومان(29) فتوقَّف عند 1: 7. والأسئلة 66-67، 68 (حاشية 22) فعالجت على التوالي 6: 1-8: 11؛ 8: 14-24؛ 9: 20. وأخيرًا إلى سمبليسيانوس عاد أيضًا إلى 7: 7-25 و9: 10-29 ليردَّ على أسئلة سمبليسيانوس. هذه الخيارات تدلُّ على المسائل اللاهوتيَّة التي تهمُّ أوغسطين، ولكنَّها لا تشرح لماذا لم يحاول أوغسطين أن يُدرك بشكل إجماليٍّ نظرة بولس في الرسالة إلى رومة كما تدلُّ بداية رسالة رومة. فالمنظار الأنتيمانويُّ حاضر جدٌّا ولاسيَّما في إلى رومة حيث يسعى أوغسطين لكي يردَّ على الذين يعتبرون أنَّ بولس يشجب الشريعة أو يدمِّر حرِّيَّة القرار. إنَّه يميِّز، في هذا المجال، بمناسبة تفسير 3: 20، أربع درجات(30) من أجل الإنسان بشكل عامٍّ، فتشكِّل إطار تفسير لمجمل الرسالة: قبل الشريعة، تحت الشريعة، تحت النعمة، في السلام(31). قبل الشريعة، تبع الإنسان شهوة(32) اللحم (والدم)، وما حاربها. تحت الشريعة، حاربَ ولكنَّه قُهر بعد أن جرَّته الشهوة وهو عالم أنَّ ما يعمله شرّ. وهذا ما قاده إلى أن يطلب »نعمة المحرِّر« الذي يمنحه بأن لا يخضع بعدُ للرغبات الخاطئة. وأخيرًا، تزول الشهوة اللحميَّة في السلام. تصوَّر أوغسطين تاريخ الخلاص على أنَّه كلٌّ متكامل، فدافع هكذا عن قيمة العهد القديم ضدَّ المانويِّين. وفُهمت متتالية الشريعة والنعمة بشكل متزايدة، بحسب النصِّ البولسيّ: فوظيفة الشريعة أن تدلَّ على الخطيئة لا أن تلغيها. فالنعمة تمنح الحياة وتجعل الإنسان روحانيٌّا، وبالتالي قادرًا على تتميم الشريعة. وشدَّد سمبليسيانوس على وظيفة الشريعة مبيِّنًا أنَّها تقود إلى العيش في تعارض بين علمَ وأرادَ، وتبيِّن أنَّ الإنسان عاجز عن العمل بحسب الشريعة. وإن اهتمَّ أوغسطين بأن يدافع عن الشريعة ضدَّ المانويِّين، فقد أراد أيضًا أن يبيِّن ضدَّهم أنَّ بولس لا يلغي القرار الحرّ. »فتحْتَ الشريعةِ« يبدو القرار الحرُّ محدودًا، لأنَّه إذا كان للإنسان الإرادة بأن لا يخطأ، فلا سلطة له. ولكن بحسب إلى رومة يستطيع »في قراره الحرِّ أن يؤمن بالمحرِّر وينال النعمة«. ويتكرَّر هذا الإعلان في روم 9: يرتبط الاختيار الإلهيُّ بقبمعرفة الإيمان المقبل لدى الإنسان. فنداء الله يسبق فعل الإيمان، غير أنَّ الإرادة الحرَّة التي بها يقرِّر الإنسان مع نداء الله أو ضدَّه، هي حاسمة. و»تستحقُّ« أن تتقبَّل الروح القدس. مقابل هذا، في السؤال الثاني من الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس، رفض أوغسطين أن ترتبط النعمة باستحقاق الإنسان. ومع ذلك، فهو لا يشكِّك بالقرار الحرِّ، ويبيِّن حين يشرح رو 9 أنَّه إن سبقتنا رحمةُ الله ومنحتنا الإرادة، فأن نريد يكون من الله ومنّا في الوقت عينه. ولكن لكي يسند أوغسطين خيار الله المجّانيَ مستبعدًا كلَّ جور من عند الله، أكَّد أنَّ جميع البشر يستحقُّون بعدلٍ أن يُحكم عليهم وأنَّهم لا يُفلتون من هذا الحكم إلاَّ بفضل رحمة الله. وهكذا أتاحت لأوغسطين الدراسة المعمَّقة للرسالة إلى رومة وخصوصًا ف 7-9، أن يعمِّق نظرته إلى النعمة: هي تستبق كلَّ استحقاق لدى الإنسان. فلا يمكن أن تنفصل عن التحرير بالمسيح (رو 7: 24-25)، فتدلَّ على العبور من مرحلة »تحت الشريعة« إلى مرحلة »تحت النعمة«) وتشكِّل وحدة مع موهبة الروح. فالأسئلة اللاهوتيَّة التي كانت أسئلة أوغسطين، قادته لأن يطبِّق، بدون حقٍّ، على خلاص كلِّ إنسان كلام رو 9 الذي دلَّ على اختيار اليهود والأمم.

ب - شرح الرسالة إلى غلاطية

في إلى غلاطية، اهتمَّ أوغسطين بأن يوضح السياق التاريخيَّ للرسالة، وهدفَه الذي قابله بهدف الرسالة إلى رومة. فكما في إلى رومة، تضمَّن هذا التفسيرُ ملاحظات أنتيمانويَّة، ولكن بدا المرمى أوسع: نحسُّ باهتمامات أوغسطين الراعويَّة، وهو يرغب بأن يكوِّن إخوته ويصلح كنيسة أفريقيا، التي كانت مقسومة بفعل جدال الدوناتيِّين (رفضوا قبول التائبين الذين خافوا من الاضطهاد...)، ومتشرِّبة بعدُ من عادات وثنيَّة مثل اللجوء إلى التنجيم. وصورة بولس التي نكتشفها في هذا التفسير، هي صورة مؤسِّس جماعات مسيحيَّة، يعلن الإنجيل، ويدافع عن الحقيقة ضدَّ الذين يرتابون بها، ويعلن أنَّ المؤمنين الآتين من الأمم هم أيضًا أبناء إبراهيم، ويسعى أخيرًا ليشفي الشقاقات ويحافظ على الوحدة في المسيح. وحادثة أنطاكية مهمَّة من هذا القبيل. كان أوغسطين ضدَّ جيروم، فدافع عن عصمة الكتاب المقدَّس وأعلن أنَّ بولس لم يكذب. وهكذا برَّر بولسَ، لأنَّه لام بطرس أمام جميع المؤمنين إذ رآه يعود إلى العالم اليهوديّ: »ما كان مفيدًا أن يوبِّخ سرٌّا ضلالاً يُسيء جهرًا«. غير أنَّ أوغسطين شدَّد أيضًا على »مثال التواضع العظيم« الذي قدَّمه بطرس حين قبل الإصلاح الأخويَّ من بولس. وبالنسبة إلى 6: 1، عاد أوغسطين إلى واجب الإصلاح الأخويِّ وإلى طريقة ممارسته. فالتواضع، الذي هو أوَّلاً تواضع المسيح، هو القاعدة الكبرى في النظام المسيحيّ. فبه »تُحفظ المحبَّة«. فالتواضع هو »موهبة الروح الأولى والعظمى« التي تتيح للمؤمن أن يتجنَّب المنازعة والحسد. وهكذا نفهم بسهولة اهتمام أوغسطين بالرسالة إلى غلاطية: ما وجد فيها فقط تعليمًا نظريٌّا حول الشريعة، بل اكتشف فيها أيضًا مثالاً للمسؤول في الجماعة الكنسيَّة.

ج- الأسئلة 83 المختلفة

يفسِّر هذا الكتاب بعض النصوص البولسيَّة المهمَّة بالنسبة إلى الكرستولوجيّا (حول يسوع المسيح) والأنتروبولوجيا (حول الإنسان). إذا وجب على الابن نفسه أن يكون »خاضعًا لمن أخضع له كلَّ شيء« (1 كو 15: 28)، فهل نظنُّ أنَّ الابن ليس مساويًا للآب؟ وكيف نفهم لفظ »شكل« habitus في فل 2: 7: »في منظره عُرف كإنسان«. أو: في أيِّ معنى يُقال: »صورة الله اللامنظور« (كو 1: 15)؟ هذه الأسئلة هي مناسبة لأوغسطين بأن يؤكِّد في الوقت عينه مساواة الابن مع الآب، وواقع التجسُّد. والسؤال 69 المكرَّس لما في 1 كو 15: 20-28، يعلن أوَّلاً قاعدة الإيمان الكاثوليكيِّ regula fidei catholicae، التي بحسبها تعلن النصوص دُنوَّ الابن بالنسبة إلى الآب، يجب أن تُفهم مرارًا عن الابن في تجسُّده. والنصوص التي تُعلن أنَّه مساوٍ للآب تعني لاهوته: نحن نجد القولين في فل 2: 6 و2: 7. ولكن ينبغي أن نضيف أنَّ الابن هو غير الآب. فالذي هو مولود غير ذاك الذي يَلد. والصورة أيضًا (كو 1: 15) هي غير ذاك الذي هو صورته: فالآيات التي تعبِّر عن »صفات الأشخاص« (أو: الأقانيم) لا تؤثِّر على المساواة فيما بينهم. عندئذٍ نستطيع أن نفهم في أيِّ معنى ينبغي على المسيح أن »يملك إلى أن يجعل كلَّ أعدائه تحت قدميه« (1 كو 15: 25): فبالنظر إلى تجسُّده وحاشه (أو: آلامه)، هو »يملك الآن في المؤمنين باتِّضاعه، بعد أن أخذ صورة العبد«، ودمار كلِّ رئاسة وكلِّ قوَّة يحصل »بالتواضع والصبر والضعف«. ولكن حين يُقال أنَّ كلَّ شيء أُخضع له »ما عدا ذاك الذي أخضع له كلَّ شيء« (1 كو 15: 27)، فهذا يقال عنه »بالنظر إلى المبدأ الذي منه ينبثق«، »من حيث إنَّه صورته التي فيها يسكن كلُّ ملء الألوهة« (كو 1: 15؛ 2: 9). وأخيرًا، يتساءل أوغسطين إذا كانت آ28 (1 كو 15) تنطبق فقط على المسيح بما أنَّه رأس الكنيسة، أو على »المسيح الكامل الذي يضمُّ الجسد والأعضاء«. ويستخلص مبرهنًا انطلاقًا من غل 3: 16، 28-29؛ 1 كو 12: 12، 29 أنَّ الإعلان ينطبق على المسيح الكامل.

والسؤال 73 الذي يتطرَّق إلى فل 2: 7 يميِّز معنى لفظ شكل habitus، ويستبعد ما يتضمَّن تبدُّلاً في اللاهوت أو في الناسوت. والسؤال 74 المكرَّس إلى كو 1: 14-15 هو توضيح مضمون ألفاظ صورة imago مساواة aequalitas شبه similitudo. وفي النهاية يستنتج أوغسطين: الابن ليس »فقط صورة الله لأنَّه يصدر عنه، وشبهه لأنَّه صورة، ولكنَّه أيضًا مساوٍ له بحيث لا يُوجَد تقييد مسافة زمنيَّة«. هذا التحديد هو حاسم بالنسبة إلى الأنتروبولوجيا: ففي السؤال 51، وبحسب التقليد الآبائيّ، شرح أوغسطين: »أن يكون الإنسان صورة الله ومثاله، ]...[ غير أن يكون على صورة الله ومثاله«: فالتعبير الأوَّل يعني الابن. والثاني يعني الإنسان المخلوق. في النصوص اللاحقة، تخلَّى أوغسطين عن هذا التمييز واعتبر أنَّه أمر شرعيٌّ بأن نقول إنَّ الإنسان هو صورة الله. ففكرة المساواة التي ربطها السؤال 74 مع فكرتي العودة والمثال، جعلت مثل هذا القول ممكنًا لأنَّها قدَّمت وسيلة تعبير أخرى عن المسافة التي تفصل الإنسان عن ابن الله. ونستطيع أن نفترض أيضًا أنَّ قراءة 1 كو 11: 7 (الإنسان هو صورة ومجد الله) الذي أورده أوغسطين ليسند طريقته في الكلام على الثالوث، لم تكن غريبة عن هذا التبدُّل في الألفاظ(33). ونلاحظ أيضًا أهمِّيَّة الأنتروبولوجيا البولسيَّة في صياغة فكر أوغسطين، في تلك الحقبة: فاستعمل في السؤال 51، وفي الوقت عينه، التمييز بين الإنسان الخارجيِّ والإنسان الباطنيِّ (2 كو 4: 16)، والتمييز بين الإنسان القديم والإنسان الجديد (كو 3: 9-10)، والتمييز بين آدم الأوَّل وآدم الثاني (1 كو 15: 45-49). وميَّز في خطِّ بولس، من جهة، القيامة وتجديد الإنسان الباطنيِّ وهذا ما يتمُّ بموت الحياة السابقة موت الخطيئة، وبولادة إلى حياة جديدة، حياة البرّ. ومن جهة ثانية، القيامة المقبلة للإنسان الخارجيّ. مثل هذا التمييز يبقى ثابتة من ثوابت فكر أوغسطين.

3. بولس في طريقة التفسير عند أوغسطين

إن كان بولس لعب مثل هذا الدور في تكوين أوغسطين اللاهوتيّ، لن نندهش حين نرى أوغسطين يأخذ من بولس المبادئ التي وجَّهته في قراءته للكتاب المقدَّس: وخصوصًا للتفكير في العلاقة بين العهدين، القديم والجديد، وللتعرُّف إلى مختلف الطرق التي بها أشار الكتاب إلى المسيح.

أ - العهد القديم والعهد الجديد

»الحرف يقتل والروح يحيي«. هذه الجملة هي موقع كتابيٌّ رئيسيٌّ لكي نفكِّر في العبور من العهد القديم إلى العهد الجديد(34). وقد لعبت دورًا كبيرًا في مسيرة أوغسطين: إنَّ الطريقة التي بها استعمل أمبرواز هذه الآية ليجاوز صعوبات التفسير الحرفيّ، أتاحت لأوغسطين أن يتجاوز اعتراضات المانويِّين المتعلِّقة بالعهد القديم. وأبعد من إيراد صريح لما في 2 كو 3: 6 الذي يمكن أن نجده في كرازة أسقف ميلانو (أي أمبرواز)، لمَّح أوغسطين إلى الطريقة التي فيها اتَّبع أمبروازُ فيلون (فيلسوف الإسكندريَّة) وأوريجان، فدعا سامعيه أو قارئيه بأن لا يتوقَّفوا عند المعنى الحرفيِّ وحده، وأن يكتشفوا السرَّ، الفهم الروحيّ(35). إذًا، فهِمَ أوغسطين أوَّلاً 2 كو 3: 6 كمبدأ فساريّ(36)، وفائدة الإيمان(37) تشير إلى هذا التفسير وتطبِّقه على فرائض »السبت والختان والذبائح وأمور أخرى مشابهة«. فالمسيح ما جاء ليلغي العهد القديم، بل »حجابَه« فقط. وفهْمُ 2 كو 3: 6 بهذه الطريقة يدعو إذًا إلى »كشـف« revelari »الأسرار« mysteria أو »الخفيّات« secreta في العهد القديم بواسطة المسيح. ولكنَّ قراءة متنبِّهة لبولس خصوصًا في الرسالة إلى رومة، قادت أوغسطين (ربَّما بتأثير القاعدة 3 تيكونيوس، حاشية 26) إلى تفسير آخر لما في 2 كو 3: 6: ففي الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس، استضاءت أقوال مفارقة لدى بولس بالنسبة إلى الشريعة في رو 7 مع »الزوج« couple: »جديد الروح« و»عتيق الحرف« بواسطة 2 كو 3: 6. فالشريعة هي »الحرف وحده للذين تعلَّموا أن يقرأوها ولا يستطيعون أن يتمُّوها«. عندئذٍ هي تحكم على المؤمن وتقتله. أمَّا الروح (القدس) فيحيي، لأنَّ »روح المحبَّة الذي هو روح العهد الجديد« فيمنحنا أن نتمَّ الشريعة. وهكذا صارت 2 كو 3: 6 مفتاحًا لفهم تاريخ الخلاص. حافظ أوغسطين في جميع مؤلَّفاته على تأويلين لما في 2 كو 3: 6. فالتفسير الثاني المسيطر لا يُزيل الأوَّل: هو يوضح أنَّ الأوَّل يحافظ على قيمته وإن يكن الثاني »أكثر توافقًا وأفضل« (الحرف والروح 4: 5-6).

ونضيف إلى استعمال أوغسطين 2 كو 3: 6 كمبدأ فساريّ، العودةَ إلى 1 كو 10: 1-11 ثمَّ غل 4: 22-26، كأساس للتفسير الروحيّ. فالقراءة الرمزيَّة لأحداث الخروج في 1 كو 10: 1-11 جاءت تردُّ على المانويِّين لتبرِّر قراءة العهد القديم قراءة نبويَّة. شدَّد أوغسطين على سلطة كلام بولس. لسنا أمام »تكهُّن بشريّ«: فالله نفسه يتكلَّم عبر الرسول. إذًا، لا نستطيع أن نشرح بشكل يختلف عنه أسرار sacramenta سفر الخروج. غير أنَّ بولس لم يشرح سوى رمزٍ واحدٍ فقال: »والصخرة كانت المسيح«. فهو يدعونا لكي نبحث انطلاقًا من هنا عن مدلول سائر الرموز: عبور البحر، السحابة، المنّ. وتبقى هناك صعوبة: كيف استطاع بولس أن يقول إنَّ الآباء »أكلوا الطعام الروحيَّ عينه« الذي أكلناه؟ أما يُلغي هكذا عثار الصليب؟ ولكن تزول الصعوبة بلفظ »روحيّ«. فبعضهم لم يأكل في المنِّ سوى الطعام الجسديّ. ولكنْ »هناك آخرون كان المسيح في قلبهم حلاوة أكثر ممَّا كان للمنِّ في فمهم«. آمن الآباء »بالمسيح الذي سوف يأتي«. ونحن نؤمن اليوم »بالمسيح الذي أتى«، »ولكنَّه المسيح نفسه«! اختلفت العلامات، أمَّا الواقع الذي تدلُّ عليه فهو المنُّ (إنجيل يوحنّا 26: 12). في العظة 45 حول إنجيل يوحنّا، شدَّد أوغسطين مرَّة أخرى على تماهي الإيمان بالمسيح قبل مجيئه وبعده. فضمَّ 1 كو 10: 1-4 إلى 2 كو 4: 13: »وإذ لنا روح الإيمان عينه كما كُتب: آمنتُ ولهذا تكلَّمت، نؤمن نحن أيضًا ولهذا نتكلَّم«. توسَّع الموضوع توسُّعًا كبيرًا في الجدال مع البيلاجيِّين لكي تَبرز شموليَّةُ وساطة المسيح: لا نستطيع أن نستبعد أبرار العهد القديم من نعمة الوسيط (الإلهيّ)« (نعمة المسيح والخطيئة الأصليَّة 2/ 26: 31).

وفي شكل مماثل، استعمل أوغسطين غل 4: 22-26 ليؤسِّس شرعيَّة الأليغوريا(38). وشدَّد مرَّات عديدة على أنَّ التفسير الأليغوريّ في غل 4: 22-26 لا يستبعد قيمة المعنى الحرفيّ: فامرأتا إبراهيم ترمزان إلى العهدين، ولكنَّ إبراهيم نال في الحقيقة ابنين، واحدًا من المرأة الحرَّة، وآخر من الأمة (سؤال 65). ونتج من ذلك بشكل عامٍّ أنَّ هناك ثلاث طرق لتفسير نصٍّ ما: المعنى الخاصّ، المعنى الرمزيّ، أو المعنى الخاصّ والمعنى الرمزيّ (مدينة الله 17/3: 1-2). وهذا التمييز الذي تكفله »سلطةُ الرسول«، يلعب دورًا هامٌّا في مدينة الله (15-18)، لأنَّه يتيح لنا أن نرى علامة إسرائيل العهد القديم بالمدينتين. ونجد في الكتاب المقدَّس »ثلاثة أنواع من النبوءات: بعضها يشير إلى أورشليم الأرضيَّة، والبعض الآخر إلى أورشليم السماويَّة، وبعضها إلى هذه وتلك«. في الرسالتين اللتين ردَّ فيهما على البيلاجيِّين(39) عاد أوغسطين في الوقت عينه إلى غل 4: 22-26 وإلى 2 كو 3: 6 لكي يشرح بأنَّ هناك طريقتين للكلام عن العهد القديم. ويريد العُرف أن ندلَّ هكذا على »الشريعة وكلِّ الأنبياء الذين تنبَّأوا إلى يوحنّا«. غير أنَّ هذه التسمية غير دقيقة. فالأصحُّ أن نتكلَّم في هذا المعنى عن »أداة قديمة« vetus instrumentum. وطريقة الكلام الأخرى، التي تستند إلى سلطة الرسول »تدعو قديمًا العهدَ الذي أُقيم بواسطة موسى وتميَّز عن طريق المفارقة على أنَّه جديد »كلَّ ما أقيم منذ سنوات كثيرة، من أجل إبراهيم«. وتُفهَم طريقةُ الكلام هذه إذا اعتبرنا، من جهة، أنَّ »وحي العهد الجديد تمَّ بالمسيح حين تجلَّى في جسم بشريّ«، أي بعد عطيَّة الشريعة (كانت المواعيد الإلهيَّة مخفيَّة من قبل). ومن جهة أخرى، أنَّ هذا الوحي يعني »الإنسان الجديد« ساعة يبدأ كلُّ إنسان بالضرورة بـ»الإنسان القديم«. بحسب هذا المدلول، نستطيع أن نؤكِّد أنَّ إبراهيم والأبرار في الأزمنة القديمة، هم منذ الآن »أولاد الوعد والنعمة بحسب إسحاق، أولاد المرأة الحرَّة ووارثو الله لا بالنظر إلى الشريعة، بل الوعد، ووارثون مع المسيح«. هم »يخصُّون أورشليم العلويَّة التي هي أمُّنا«. وإيمانهم هو إيماننا عينه »فكانوا مسيحيِّين« لا بالاسم، بل بالحقيقة »حتَّى قبل مجيء المسيح. مثلُ هذا الفهم لتاريخ الخلاص هو في العمق فهمٌ بولسيّ.

ب - ثلاث طرق للكلام عن المسيح في الكتاب المقدَّس

ميَّزت عظة دولبو 22(40) في الكتاب المقدَّس ثلاث طرق للكلام عن المسيح: (1) بما أنَّه إله فهو أزليٌّ مع الآب. (2) بعد التجسُّد، بما أنَّه الإله الذي صار إنسانًا والإنسان الذي هو أيضًا الله«، وبما أنَّه »وسيط ورأس الكنيسة«. (3) وأخيرًا، بما أنَّه »المسيح الكامل في ملء الكنيسة، أي الرأس والجسد«. فالتمييز بين الشكل الأوَّل والشكل الثاني نقرأه في مطلع يوحنَّا كما في فل 2: 6-7. وشرح الشكل الثالث يقدِّم الإيرادات البولسيَّة العديدة التي ترتبط بموضوع الكنيسة عروس المسيح وجسده.

فأهمِّيَّة النشيد في رسالة فيلبِّي في مؤلَّفات أوغسطين جاء واضحًا في كتاب كرستولوجيا وروحانيَّة القدِّيس أوغسطين. النشيد في رسالة فيلبِّي(41). درس هذا الكتاب الطريقة التي بها عاد أوغسطين إلى فل 2: 6-7 في رباط مع قاعدة الإيمان regula fidei (ص 333- 400). لا حاجة للعودة إلى بداية استعمالات فل 2: 6-7 بعد أن قرأنا مثَلاً في سؤال 69. ولكنَّنا نتوقَّف عند الكتاب الأوَّل من الثالوث: قرأ فيه أوغسطين النصوص الكتابيَّة التي استغلَّها المانويُّون ضدَّ ألوهيَّة المسيح. حاولوا أن ينقلوا إلى طبيعة الابن الإلهيَّة عبارات كتابيَّة تشير إلى دنوِّه كإنسان، فردَّ أوغسطين عليهم حالاً بنصِّ فل 2: 7: »لاشى نفسه فأخذ صورة عبد«. واستنتج أنَّ »الابن صار أدنى من ذاته«. هو مساوٍ للآب في صورة الله forma dei وأدنى من ذاته في صورة عبد forma servi فالقاعدة التي نشير إليها لكي نحلَّ هذه المسألة بفضل مجمل الكتاب المقدَّس (كما قال)، تُؤخَذ من فصل في رسالة بولس الرسول حيث نتعلَّم هذا التمييز بشكل أكثر وضوحًا«. عندئذٍ أورد أوغسطين فل 2: 7 وجعل من الثنائيّ في صورة الله/في صورة العبد: in forma Dei/in forma servi الإطار الذي يعرض فيه الإعلانات الكتابيَّة التي تنطبق على الطبيعتين الإلهيَّة والبشريَّة. والدور الذي منحه أوغسطين إلى فل 2: 6-7 في التعبير عن قاعدة الإيمان regula fidei يشرح لجوءه العاديَّ إلى هاتين الآيتين ليزيل صعوبات في تفسير الكتاب المقدَّس: أو هو يتجاوز التعارض بين آيتين (مثلاً مز 78: 4 و2 كو 3: 2: كيف يكون المسيح في الوقت عينه »خبز الملائكة« و»لبن الأطفال«). أو هو يميِّز في نصٍّ من النصوص ما ينطبق على صورة الله forma Dei وما يُفهَم من صورة العبد forma servi (في مزمور مثل مز 86). ليس من قبيل الصدف أن يرجع أوغسطين مرارًا عديدة إلى نشيد فيلبِّي: فالمقطوعة البولسيَّة هي في قلب كرستولوجيَّته (حاشية 40، ص 482-499). إنَّها أتاحت له أن يؤكِّد بقوَّة كمال الطبيعة الإلهيَّة وكمال الطبيعة البشريَّة في المسيح، وفي الوقت عينه اتِّحادهما من دون امتزاج (ضدَّ فاوستوس 3/6) وهي تعبِّر أفضل تعبير عمق التلاشي والتمجيد الذي لا ينفصل عنه (مز 110/7: 20) وأخيرًا تدلُّ على مركزيَّة التواضع في حياة المسيحيّ (إنجيل يوحنّا 29: 8)

الإيرادات البولسيَّة جوهريَّة، كلَّ مرَّة يتساءل أوغسطين حول إمكانيَّة تطبيق آية على المسيح، لا يستطيع أن يقولها في شكل الله forma Dei ولا حتّى في شكل العبد forma servi بل على أنَّه المسيح الكامل Christus totus. مثل هذه الإيرادات عديدة في شروح المزامير(42): ففي نظر أوغسطين، يجب أن نسمع صوت المسيح في الزبور كلِّه، ولكن يجب أن نعرف إن كان يتكلَّم باسمه الخاصِّ أو باسم أعضائه. مثل هذا التأويل يفترض التأكيد بشدَّة على »وحدة الرأس والجسد«. وهذا ما يبرِّره أوغسطين بعونِ ملفٍّ كتابيٍّ يحتلُّ فيه بولس مركز الصدارة(43). هو يورد النصوص البولسيَّة حول الجسد والأعضاء (1 كو 12: 12؛ أف 5: 23)، حول وحدة الزواج (أف 5: 31-32). كما يورد نصوصًا يدلُّ فيها بولس على تماهيه مع المسيح (غل 2: 20؛ كو 1: 24)، وعلى احتواء المسيحيِّين في المسيح (غل 3: 16، 27-29). وتأثير تيكونيوس واضح، فالقاعدة الأولى تعود إلى ملفٍّ كتابيٍّ مشابه(44). وقراءة مقطع من المزامير (مز 31) يفهمنا كم تشرَّب أوغسطين من بولس: فسَّر آ2: »عليك يا ربُّ توكَّلت، فلا أخزَ إلى الأبد« فقال:

إذًا يتكلَّم المسيح هنا في النبيّ. أتجرَّأ فأقول: المسيح يتكلَّم. وهو يقول في هذا المزمور أمورًا تبدو وكأنَّها لا تليق بالمسيح، وبسموِّ رأسه، وخصوصًا بالكلمة الذي كان في البدء، الله لدى الله (يو 1: 1). ولكن يمكن أنَّها لا تليق به في صورة عبد (فل 2: 7) التي أخذها من العذراء. ومع ذلك، فالمسيح يتكلَّم لأنَّ في أعضاء المسيح يُوجَد المسيح. ولكي تعلموا أنَّ الرأس وجسده يُعتبَران مسيحًا واحدًا، قال هو نفسه متكلِّمًا عن الزواج: »يكون الاثنان في جسد واحد. إذًا ليسا هما اثنين، بل جسد واحد« (مت 19: 5-6). ولكن يقولون: ربَّما يتكلَّم عن أيِّ زواج كان؟ فنسمع بولس الرسول يقول: »يكونان اثنين في جسد واحد. هذا السرُّ عظيم وهو يعني المسيح والكنيسة« (أف 5: 31-32). هو جعل من نفسه شخصًا واحدًا انطلاقًا من اثنين، من الرأس والجسد، من العريس والعروس ]...[. إذا كانا اثنين في جسد واحد، لماذا لا يكونان اثنين في صوت واحد؟ إذًا، ليتكلَّم المسيح لأنَّ في المسيح تتكلَّم الكنيسة، وفي الكنيسة يتكلَّم المسيح، والجسد هو الرأس والرأس في الجسد. واسمع الرسول يعبِّر عن ذلك بوضوح أكثر: »كما أنَّ الجسد فيه وله أعضاء عديدة، وأنَّ جميع أعضاء الجسد، وإن كانت عديدة، تكوِّن جسدًا واحدًا. هكذا هو المسيح« (1 كو 12: 12). ولمَّا تكلَّم عن أعضاء المسيح أي عن المؤمنين، لم يقل: هكذا هي أعضاء المسيح، ولكنَّ هذا الكلَّ الذي يتكلَّم عنه، دعاه المسيح (حاشية 42، ترجمة).

ينتج عن مثل هذه الوحدة بين المسيح وبيننا »تبادلٌ عجيب«. »ما أنف أن يحوِّلنا إليه وأن يتكلَّم معنا بكلماتنا، لكي نتكلَّم نحن أيضًا بكلماته هو«. في عبارة »حوَّلنا إلى ذاته transfigurare nos in se نقرأ ترجمة فل 3: 21 التي قرأها أوغسطين بشكل: حوَّل جسد ضعفنا بحسب جسد مجده(45). بدَّل أوغسطين تبديلات لها مدلولها: إذ تحدَّث بولس عن تحوُّل جسدنا الذي سوف يتمُّ في القيامة، صوَّر أوغسطين هذا التحوُّل وكأنَّه حصل منذ الآن بفضل التجسُّد والحاش (أو: الآلام) وأضاف »إلى ذاته« in se فأبرز هكذا أنَّ تحوُّل المسيحيِّين يتمُّ في دخول في جسد المسيح. وأخيرًا لعب على معنى لفظ جسد corpus الذي يدلُّ في نظرة أوغسطين على جسد المسيح الفرديِّ وجسده الكنسيّ (حاشية 42، ص 380-388). غير أنَّ هذه التحوُّلات لها ما يبرِّرها العودة إلى رو 6: 6: »سُمِّر إنساننا العتيق معه على الصليب« (مز 38: 27؛ 143: 9؛ رسالة 140/6: 14-15). مثل هذه الطريق في الكلام عن الكنيسة وعن الخلاص، تركَّزت بشكل قويٍّ على المسيح ودلَّت علـى تأثـير بولـس العميق على أوغسطين.

4. بولس المدافع عن النعمة، مثال لأوغسطين

بسرٍّ عميق جدٌّا وخلاصيّ، كلُّ سمات الكتب المقدَّسة، بل وجهها، هو هنا لكي ينبِّه هؤلاء الذين يعرفون أن ينظروا إليه عن قرب: »من يفتخر فليفتخر في الربّ.«

هذه الأسطر في المجموعة(46) تضمُّ بقوَّة تعليم الكتاب المقدَّس في تنبيه بولس في 1 كو 1: 31. فالدعوة إلى الافتخار في الله ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعرُّف إلى النعمة: »ما هو الذي لك ولم تأخذه؟« (1 كو 4: 7). هذا يدلُّ على أنَّ التعليم البولسيَّ عن النعمة يوجز، في نظر أوغسطين، تعليم الكتاب المقدَّس. كما نعرف بشهادة مصير القدِّيسين المسبق(47) أنَّ هذه الآية التي أوردها القدِّيس قبريانوس ليبيِّن »أن لا نفتخر بشيء، لأنَّ لا شيء لنا«، عملَتْ على اقناع أوغسطين بأوَّليَّة النعمة بشكل جذريّ، ساعة ردَّ على أسئلة سمبليسيانوس. فالتعليم الأوغسطينيُّ حول النعمة يجد ينبوعه في رسائل بولس، كما يدلُّ على ذلك ملفُّ النصوص الكتابيَّة التي ذكرها أوغسطين (رو 5: 1ي؛ 7: 1ب؛ 9: 1ي؛ 1 كو 4: 7؛ 2 كو 3: 6؛ فل 2: 13؛ أف 2: 8؛ 1 تم 2: 4). بولس هو أرفع »من علَّم النعمة« و»كرز بها«. وهو أيضًا لها »الشاهد«. ولا يني أوغسطين يعود إلى مثاله لكي يدافع عنها(48).

أ - المدافع عن النعمة

إنَّ تفحُّصَ أولى تفاسير الرسالة إلى رومة، أتاح لنا منذ الآن أن نكتشف دور بداية التعليم الأوغسطينيِّ حول النعمة. لا مجال هنا لتأويل النصوص البولسيَّة التي تهمُّنا. ولكن لا بدَّ من أن نبيِّن كيف أنَّ أغسطين، في بداية الجدال مع البيلاجيِّين، يتوجَّه من جديد نحو بولس لكي يعمِّق النظرة إلى النعمة ويعمِّقها في وجه البيلاجيِّين. أتوقَّف بسبب المدلول الخاصِّ عند استحقاقات الخطأة والغفران(49) وعند الحرف والروح(50). في المؤلَّف الأوَّل الذي يعود إلى سنة 411-412، وسَّع أوغسطين التعليم حول النعمة في علاقتها بكلام عن الخطيئة الأصليَّة، وقابل بين المسيح وآدم بحسب تعليم رو 5: 12-21. في الروح والحرف (دُوِّن سنة 413) وسَّع التعليم انطلاقًا من تعارض بين الحرف والروح، متوسِّعًا في النظرة البولسيَّة إلى الشريعة، وواهبًا رو 5: 5 مكانة مركزيَّة: »أُفيضَ حبُّ الله في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا«.

والأسئلة التي طرحها »مَرسلاّن« تشرح بسهولة الإيرادات العديدة من الرسالة إلى رومة، التي نجدها في استحقاقات الخطأة(51). فحين أراد أوغسطين أن يردَّ على الذين يقولون »إنَّ آدم نفسه خُلق بحيث يكون مائتًا، ولو لم يخطأ، لا عقابًا على خطيئة، ولكن بضرورة طبيعته« (1/2: 2)، عاد بشكل صريح، في بداية الكتاب الأوَّل إلى 2 كو 5: 24؛ رو 8: 10-13، لكي يبيِّن أنَّ جسد الإنسان يمكن أن يكون مائتًا دون أن يُفرَض عليه أن يموت، لو لم تكن الخطيئة هناك. ثمَّ ضمَّ 1 كو 15: 21-22 إلى رو 5: 12، ليُثبت أنَّ نتيجة الخطيئة هي موت الجسد. إنَّ التفسير البيلاجيَّ لما في 5: 12 الذي يعارض نتيجة الخطيئة كما يعارض انتقاله بالتناسل، قاده إلى شرح رو 5: 12-21 شرحًا طويلاً (1/9: 9-15، 20)، ساعة لا يكاد النصُّ يرد في مؤلَّفات سابقة للجدال. وأخيرًا الاعتراضات المتعلِّقة بعماد الأطفال، جعلت أوغسطين »يكدِّس« الشهادات الكتابيَّة، خصوصًا تلك المأخوذة من بولس الرسول التي (كما قال) هي عديدة إلى درجة بأنَّه »دوَّن رسائل كثيرة وسهر بعناية كبيرة لكي يُبرز نعمة الله ضدَّ الذين يتشامخون بأعمالهم الصالحة وإذ يجهلون برَّ الله ويريدون أن يقيموا برَّهم، لا يخضعون لبرِّ الله« (رو 10: 3). وعالج الكتاب الثاني الطروحات البيلاجيَّة المتعلِّقة باللاخطأ impeccantia. عندئذٍ حاول أوغسطين أن يبيِّن مستندًا بشكل خاصٍّ إلى رو 7: 24-25 (2/12: 17)، إلى إقرار بولس الشخصيِّ في فل 3: 6-16 (2/13: 20)، أنَّ برَّ الإنسان يلبث ناقصًا على الأرض، وأنَّه ما من إنسان بلا خطيئة إلاَّ »الوسيط الوحيد بين الله والبشر، يسوع المسيح« (1 تم 2: 5). وأخيرًا، ناقش الكتابُ الثالث بعض تفاسير بولس التي قرأها بولس في شروح(52) بيلاج، وخصوصًا شرح رو 5: 12-13 و1 كو 7: 14 (3/2: 2-11، 19).

هذه الطروحات المتعلِّقة بالخطيئة الأصليَّة وبعماد الأطفال حرَّكت، على ما يبدو، جدالات في قرطاجة سنة 413، بحسب العظة 294(53). ينبغي بلا شكٍّ أن ننسب إلى هذه الجدالات المنظار الجديد الذي وسَّعه أوغسطين في الروح والحرف. فهذا المؤلَّف قدَّم قراءة إجماليَّة للرسالة إلى رومة، ليُثبت أنَّ الإنسان لا يقدر أن يكون بارٌّا بدون النعمة، أي بدون موهبة الروح (القدس). أمَّا البيلاجيُّون فاعتبروا أنَّ الإنسان يبلغ إلى البرِّ بقوَّة إرادته وبفضل الفرائض الإلهيَّة (2: 4-5، 8).

أمَّا أحد الأهداف الجوهريَّة لدى أوغسطين، فهو أن يوضح وضع الشريعة، ويحدِّد في أيِّ معنى يؤكِّد بولس في رو 3: 20 »أنَّ ما من بشر يتبرَّر بالشريعة قدَّام الله«. أمَّا بيلاج فماهى في تفسير رو 3: 20-21 بين أعمال الشريعة و»الختان والسبت واحتفالات أخرى« من هذا النوع، وقاوم أولئك الذين »يستغلُّون هذا المقطع ليلغوا أعمال البرّ« (في شرح رو 3: 20). ردَّ أوغسطين على مثل هذا التفسير، فبيَّن، مستندًا إلى رو 7 أنَّ »الحرف الذي يقتل« لا يدلُّ على الفرائض الطقوسيَّة وحدها، بل أيضًا على الشريعة بحيث تحرِّم الخطيئة، لأنَّها تضيف الشهوة وتزيد التعدِّي على الشرّ« (الروح والحرف 13: 21-25). وعطاء النعمة أي »الروح المحيي« يتيح لنا وحده أن نحبَّ الشريعة وبالتالي أن نتمَّها (الروح والحرف 14: 26-19: 32). ورأى فيها أوغسطين العهدَ الجديد الذي تنبَّأ به إر 31: 31-34: »الشريعة التي كتبها الله في القلوب«، ليست سوى الحضور الباطنيِّ للروح الذي يفيض المحبَّة فيبدِّد المخافة ويملأ بالفرح، »ويصنع فينا الإرادة والعمل بحسب إرادته« (فل 2: 13؛ الروح والحرف 19: 33-25: 42). تلك هي النعمة التي »تبرِّرنا« أي تجعلنا أبرارًا فتنقلنا من الخطيئة إلى البرّ (الروح والحرف 26: 45).

ب - المعترف بالنعمة

لا ينحصر الرفدُ البولسيّ، في نظر أوغسطين، في تعليمه. فوجه بولس هو شهادة ساطعة لما هي النعمة. عاد أوغسطين مرارًا إلى معنى اسم بولس Paulus. فاللفظ اللاتينيُّ يعني »القليل« peu. إن كان الرسول اتَّخذ اسم بولس فلأنَّه »آخر الرسل« (1 كو 4: 9). وتفسير 1 كو 15: 9-10 هو مناسبة دائمة لإظهار التعارض بين صِغر بولس (أنا أصغر الرسل) والعمل الذي قام به: »اشتغلتُ أكثر منهم كلِّهم...«. قال هذا ليبرز ما استطاعت نعمةُ الله أن تفعل في ذلك الذي هو وضيع. ذكر أوغسطين مرارًا اهتداء بولس في أع 9، وما اهتمَّ يومًا بأن يقابل مختلف أخبار سفر الأعمال، بل شدَّد على قدرة النعمة التي جعلت، في لحظة واحدة، من المضطهد كارزًا ومبشِّرًا. فإن استطاع المسيح أن يشفي »مريضًا« مثل بولس، فمن يقدر أن ييأس من فنِّ هذا الطبيب.

ورأى أوغسـطــين أيضًـا فــنَّ الطـبيـب في »شـوكـة الجسـد« (أو: اللحـم): sulumits hDa التي يشتكي منها بولس (2 كو 12: 7-10) التي هي أيضًا دواء ضدَّ الكبرياء (مز 59: 2، 5). فإن احتاج بولس، بمحبَّته الكبيرة، إلى طبيب، فمن يقدر أن يحسب نفسه بلا خطيئة؟ في سياق الجدال الأنتيبيلاجيّ، شدَّد أوغسطين على ضعف بولس، وهو ضعفُ يقرُّ به بولسُ نفسه. والذين يقولون إنَّ بولس لا يتكلَّم باسمه الشخصيِّ في رو 7: 15 (لا أفعل ما أريد، بل ما أكرهه إيَّاه أفعل)، قدَّم له أوغسطين في الخطبة 154 (3: 4-4: 5) فل 3: 12-14 الذي قد يفسِّره بعضهم طلبًا للاموت (= للخلود) لا للكمال. عندئذٍ أورد 2 كو 4: 7 (نحمل هذا الكنز في آنية من خزف) كما أورد 2 كو 12: 7 (ولئلاَّ أرتفع بفرط الإيحاءات وأتكبَّر). ما يُقرُّ به بولس هنا هو »ضعف نفسه« (أو: ضعفه الذاتيّ).

ولاحظ أوغسطين أنَّ بولس لم يخف من الاستشهاد، بل رغب فيه (2 تم 4: 6؛ فل 1: 23). ولكنَّه كان يفضِّل أن يرتدي الخلود وعدم الموت، دون أن يُعرَّى من الجسد (2 كو 5: 4). وأتت ثقتُه »لا من نفسه، بل من ذلك الذي وهب له كلَّ شيء«. وأخيرًا، ذكر أوغسطين »إكليل البرّ« (2 تم 4: 7-8) الذي استحقَّه بولس، وأضاف حالاً متوجِّهًا إليه: »أجل الإكليل الذي يحقُّ لك واجب لاستحقاقاتك، ولكنَّ استحقاقاتك هي مواهب من عند الله« (بيلاج 14: 35).

الخاتمة

كانت قراءة بولس حاسمة بالنسبة إلى أوغسطين. ولكن لا بدَّ من القول أيضًا أنَّ التفسير الأوغسطينيّ لبولس أثَّر تأثيرًا كبيرًا على الغرب. كيف نفسِّر مثل هذا التأثير؟ اعتبر بعضهم أنَّ النهج الذي استعمله أوغسطين في كرازته يمكن أن يشرح هذا الوضع: فأوغسطين جعل بولس يتكلَّم وتحاور معه، وأدخل عند الضرورة شخصًا ثالثًا. وهكذا صارت قراءة بولس القراءة التي يدافع عنها بولس نفسه. وفي تفاعل دقيق قوَّتْ سلطة بولس سلطة أوغسطين وسلطةُ أوغسطين سلطةَ بولس. ولكنَّ هذه الطريقة التي بها جعل أوغسطينُ بولسَ يتكلَّم، تكشف بدورها تصاحُبًا بين هذين الكبيرين. عرف أوغسطين نفسه في خبرة بولس وفي النهاية تماهى معه. لهذا فقراءة أوغسطين لبولس لا يمكن إلاَّ أن تحرِّك الفكر وتفتح الطريق إلى آفاق جديدة تمتدُّ امتداد الكنيسة.(54)

 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:31 PM   رقم المشاركة : ( 155792 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




القدِّيس أوغسطين تلميذ بولس الرسول

عرف العالمُ اللاتينيُّ في نهاية القرن الرابع وفي بداية القرن الخامس، مفسِّرين عديدين للرسائل البولسيَّة: ماريوس فكتورينوس(2)، الإمبروزيَستر(3) الكاتب المغفَّل لتفاسير وُجدت في كودكس بودابست (هنغاريا أو المجر)، جيروم، بيلاج. ويُضاف إلى هذه التفاسير اللاتينيَّة(4) ترجمة روفين لتفسير أوريجان حول رسالة بولس إلى أهل رومة. وتساءلنا مرارًا حول هذا الاهتمام الكبير بالقدِّيس بولس في القرن 4-5، تجاه الأنتيبولسيَّة(5) في القرن الثاني، مع تفاسير نادرة، لبولس في القرن الثالث(6). ما يفسِّر ذلك، بلا شكّ، هو الجدالات العقائديَّة حول شخص المسيح ومسألة الخلاص، ثمَّ الاهتمام بتقديم مثال الحياة المسيحيَّة. وهكذا يُقدَّم بولس على أنَّه نموذج الاهتداء إلى الربّ، والمعلِّم.

في هذا السياق نحدِّد موقع اهتمام أوغسطين ببولس، ولكنَّنا لا نكتفي بالكلام عن الاهتمام. ففي تفسير مزمور 147 لا يتردَّد أوغسطين في أن يقول لسامعيه: »ما من شيء معروف لنا أكثر من ]بولس الرسول[، ما من شيء أحلى، ما من شيء في الأسفار المقدَّسة أقرب إلينا«. في الحقيقة، بولس هو في نظر أوغسطين »معلِّم« كما سوف نبيِّن. ومن المستحيل في حدود هذا المقال أن نتفحَّص بشكل منهجيٍّ تفسير أوغسطين للرسائل البولسيَّة(7)، أو أن نقابله مع تفسير معاصريه(8). فالدراسات كثيرة. ولكن نودُّ أن نبرز دور بولس الحاسم في حياة أوغسطين وفكره: في اهتدائه أوَّلاً، في تكوينه اللاهوتيّ ثانيًا، وفي فساره الكتابيّ وفي تعليمه عن النعمة.
 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:32 PM   رقم المشاركة : ( 155793 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




دور بولس في اهتداء القدِّيس أوغسطين

شدَّد الكتابان السابع والثامن في الاعترافات على الدور الحاسم الذي لعبته قراءة بولس في اهتداء أوغسطين. هناك جدال حول الخبر في الكتاب الثامن ونحن لا ندخل فيه(9)، بل نتجاوز خيارًا بسيطًا جدٌّا بين التاريخ والخدعة الأدبيَّة فندرك أنَّ حقيقة الخبر لا تنفي كلِّيٌّا وضعه في شكل أدبيٍّ وصياغته اللاهوتيَّة(10). فالاعترافات بما هي خبر، تكشف في أيِّ حال أهمِّيَّة بولس في الطريقة التي بها فهم أوغسطينُ اهتداءه وتحدَّث عنه.

تمسَّكتُ إذًا بجوع كبير بمؤلَّفات روحك الجليلة، وقبْلَها كلِّها بمؤلَّفات بولس الرسول. حينئذٍ اختفت الصعوبات التي كانت لي في يوم من الأيّام، حين بدا لي هذا في تعارض مع نفسه وفي لاتوافق مع شهادات الشريعة والأنبياء، في مضمون أقواله الأدبيّ. ورأيتُ أمامي، تحت وجه واحد، الأقوالَ المقدَّسة، وتعلَّمتُ أن »أنشد وأنا أرتجف«. فشرعتُ أقرأ واكتشفتُ أنَّ كلَّ ما قرأت من حقيقة عند الأفلاطونيِّين قد قيل هنا، ولكن مع تقييم نعمتك بحيث إنَّ ذاك الذي يرى لا »يفتخر«، وكأنَّه ما نال شيئًا. لا ما يرى بل أيضًا أن يرى، »فما الذي ناله وما أخذه«؟ وبحيث أنت يا من هو هو، يُدفَع إلى أن يراك بل يشقى لكي يمتلكك، وبحيث أنَّ هذا الذي لا يقدر أن يرى من بعيد، يمشي، مع ذلك، في الطريق التي فيها يمكن أن يأتي ويرى ويمتلك. فحتّى وإن ذاق الإنسان »شريعة الله بحسب الإنسان الباطنيّ«، فماذا يفعل »بالشريعة الأخرى التي تحارب في أعضائه شريعة روحه وتجعله سجين شريعة الخطيئة التي في أعضائه؟« ]...[ بعدالةٍ سُلِّمنا إلى الخاطئ العتيق، إلى أركون الموت، لأنَّه أقنع إرادتنا بأن تتوافق مع إرادته، التي رفضَتْ أن نلبث في حقيقتك. فماذا يصنعُ الإنسان في شقائه؟ من ينجِّيه من جسد الموت هذا سوى نعمتك بيسوع المسيح ربِّنا.(11)

إنَّ قراءة الردُّ على الأكاديميِّين(12) تشير إلى أنَّ هدف أوغسطين الأوَّل حين قرأ بولس، كان أن يتفحَّص إذا كان الرسول في تعارض مع »الخير الأسمى« الذي كشفه له الأفلاطونيُّون: وهو تعارض اعتبره أوغسطين مستحيلاً بالنظر إلى طريقة عيش المسيحيِّين. وشدَّد الكتاب السابع من الاعترافات، بشكل إضافيّ، على ضرورة تجاوز انتقاد المانويِّين، الذين اهتمُّوا اهتمامًا كبيرًا ببولس، واعتبروا أنَّه كان في تعارض مع نفسه ومع العهد القديم. فقاموا بقراءة نقديَّة لرسائله، وشجبوا التحريفات التي فيها(13). فهدفُ قراءة بولس، في نظر أوغسطين سنة 386، كان واضحًا: مواجهة مع طروح الأفلاطونيِّين، وإقامة تفسير جديد للتحرُّر من تفسير المانويِّين. وجاءت نتائج هذه القراءة حاسمة: أدرك أوغسطين وحدة الكتب المقدَّسة التي بدت له منذ الآن في »وجه واحد«(14). ما بدا له بولس فقط في تعارض مع الأفلاطونيِّين، بل كشف فيه ما يمكن أن يشفي عجزه لمشاهدة الحقيقة مشاهدة متداومة. وفهم أنَّ عجزه لا يقوم فيه بالتعارض بين طبيعتين، كما قال تفسير المانويِّين لبولس(15)، بل بتناقض أدخله الإنسان في ذاته بقرار حرٍّ، ولا يستطيع أن يحرِّره منه إلاَّ المسيح. إذًا، فسَّر بشكل مختلف الانقسام البولسيَّ بين اللحم (والدم) والروح والخلاص الذي يحمله المسيح.

وهنا لا بدَّ من إبراز دور المسيح المركزيّ: فهو »الطريق« والخلاص. وحين قام أوغسطين بجردة حساب لما وجد ولما لم يجد عند الأفلاطونيِّين(16)، شدَّد، عائدًا إلى فل 2: 6-11 ورو 5: 6 ورو 8:32، أنه إن كان الافلاطونيون أتاحوا له أن يستشفّ الحقيقة الالهيّة، فهم ما عرّفوه بمن هو الطريق: المسيح المتواضع، الذي مات عن الأشرار(17) وهو »الوسيط بين الله والبشر«(18). فمركزيَّة المسيح عند أوغسطين التي تظهر هنا والتي هي ثابتة من ثوابت فكره(19)، يجب أن تكون في علامة بولس في حياته وفي مؤلَّفاته.

ويختم أوغسطين خبر قراءته لبولس في نهاية الكتاب السابع من الاعترافات فيقول: »دخلتْ فيَّ هذه الأمورُ حتَّى الأمعاء بشكل مفاجئ حين كنت أقرأ »أصغر رسلك«(20). فاستطاع حينئذٍ أن يبيِّن في الكتاب الثامن كيف أنَّ امتلاك ألفاظ بولس، لعب دورًا حاسمًا في اهتداء إرادته، وصُوِّرت هذه القراءة الآن على أنَّها خبرة وجوديَّة. فاكتشف أوغسطين نفسه في ألفاظ الرسالة إلى غلاطية: »]...[ حين اختبرتُ بنفسي فهمتُ ما قرأتُ من قبل كيف أنَّ »اللحم (والدم) يشتهي ضدَّ الروح والروح ضدَّ اللحم (والدم)«(21). فبحسب الكتاب الثامن، حصل الاهتداء حين طبَّق أوغسطين على نفسه رو 13: 13-14: »لا للبطر والسكر، لا بالمضاجع والعهر، لا بالخصام والحسد، بل البسوا الربَّ يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات« (اعترافات 8/12: 29). فكما أنَّ بولس أحسَّ بانقلاب بصوتٍ جاء من فوق فاهتدى، صوَّر أوغسطين نفسه وكأنَّه تحوَّل فجأة بعد أن سمع صوتًا آتيًا من البيت القريب(22) يكرِّر: »خذ واقرأ«. عندئذٍ قرأ هذه الكلمات في الرسالة إلى رومة. لا نشدِّد أكثر من اللزوم على التقابل بين خبر أع 9 وخبر الكتاب الثامن، ولكن يمكن القول إنَّ أوغسطين فسَّر سيرته الشخصيَّة على ضوء سيرة بولس. هذا يعني أهمِّيَّة بولس في مسيرة أوغسطين.
 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:33 PM   رقم المشاركة : ( 155794 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




دور بولس في تكوين أوغسطين اللاهوتيّ

يكفي أن نعدِّد عناوين أولى مقالات أوغسطين التأويليَّة، لنلاحظ المكانة التي تحتلُّها الرسائل البولسيَّة. فبين سنة 394 وسنة 396، شرح أوغسطين ثلاث مرَّات الرسالة إلى رومة بشكل جزئيّ. وشرح الرسالة إلى غلاطية كلَّها، وردَّ على أسئلة إخوته حول نصوص بولسيَّة متنوِّعة في 83 أسئلة مختلفة(23). ونحن نعرف أنَّه قبل أن يكتب عَرْضَ الرسالة إلى غلاطية(24)، قرأ شرح جيروم لهذه الرسالة، كما عاد، على ما يبدو، إلى شرح ماريوس فكتورينوس (حاشية 1). ووُجدت نقاط اتِّصال بين الإمبروسياستر (حاشية 2) وعرض بعض الأمور من الرسالة إلى رومة(25)، ولاسيَّما في النظرة إلى معرفة الله المسبقة(26). غير أنَّ أوغسطين لبث حرٌّا بالنسبة إلى مراجعه، ولاسيَّما في تفسير بولس. ولا بدَّ أيضًا من الأخذ بعين الاعتبار تأثير قاعدة تيكونيوس الثالثة(27) »المواعيد والشريعة« التي نستشفُّ آثارها في تدوين الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس (حاشية 21). فهذه الدراسة المعمَّقة لبولس دلَّت على اهتمام التكوين اللاهوتيّ عند أوغسطين(28) كما نفهمها في اهتمام راعويّ (ردود إلى إخوته) وضرورة تجاوز التفسير المانويّ لبولس.

أ - تفسير الرسالة إلى رومة

أكثر رسالة شرحها بولس هي الرسالة إلى رومة. فإلى رومة تشرح مطوَّلاً ف 7-8، ولكنَّه يترك جانبًا آيات هامَّة مثل 1: 17؛ 3: 21-28 ثمَّ 5: 12. أمّا العرض المرسوم للرسالة إلى الرومان(29) فتوقَّف عند 1: 7. والأسئلة 66-67، 68 (حاشية 22) فعالجت على التوالي 6: 1-8: 11؛ 8: 14-24؛ 9: 20. وأخيرًا إلى سمبليسيانوس عاد أيضًا إلى 7: 7-25 و9: 10-29 ليردَّ على أسئلة سمبليسيانوس. هذه الخيارات تدلُّ على المسائل اللاهوتيَّة التي تهمُّ أوغسطين، ولكنَّها لا تشرح لماذا لم يحاول أوغسطين أن يُدرك بشكل إجماليٍّ نظرة بولس في الرسالة إلى رومة كما تدلُّ بداية رسالة رومة. فالمنظار الأنتيمانويُّ حاضر جدٌّا ولاسيَّما في إلى رومة حيث يسعى أوغسطين لكي يردَّ على الذين يعتبرون أنَّ بولس يشجب الشريعة أو يدمِّر حرِّيَّة القرار. إنَّه يميِّز، في هذا المجال، بمناسبة تفسير 3: 20، أربع درجات(30) من أجل الإنسان بشكل عامٍّ، فتشكِّل إطار تفسير لمجمل الرسالة: قبل الشريعة، تحت الشريعة، تحت النعمة، في السلام(31). قبل الشريعة، تبع الإنسان شهوة(32) اللحم (والدم)، وما حاربها. تحت الشريعة، حاربَ ولكنَّه قُهر بعد أن جرَّته الشهوة وهو عالم أنَّ ما يعمله شرّ. وهذا ما قاده إلى أن يطلب »نعمة المحرِّر« الذي يمنحه بأن لا يخضع بعدُ للرغبات الخاطئة. وأخيرًا، تزول الشهوة اللحميَّة في السلام. تصوَّر أوغسطين تاريخ الخلاص على أنَّه كلٌّ متكامل، فدافع هكذا عن قيمة العهد القديم ضدَّ المانويِّين. وفُهمت متتالية الشريعة والنعمة بشكل متزايدة، بحسب النصِّ البولسيّ: فوظيفة الشريعة أن تدلَّ على الخطيئة لا أن تلغيها. فالنعمة تمنح الحياة وتجعل الإنسان روحانيٌّا، وبالتالي قادرًا على تتميم الشريعة. وشدَّد سمبليسيانوس على وظيفة الشريعة مبيِّنًا أنَّها تقود إلى العيش في تعارض بين علمَ وأرادَ، وتبيِّن أنَّ الإنسان عاجز عن العمل بحسب الشريعة. وإن اهتمَّ أوغسطين بأن يدافع عن الشريعة ضدَّ المانويِّين، فقد أراد أيضًا أن يبيِّن ضدَّهم أنَّ بولس لا يلغي القرار الحرّ. »فتحْتَ الشريعةِ« يبدو القرار الحرُّ محدودًا، لأنَّه إذا كان للإنسان الإرادة بأن لا يخطأ، فلا سلطة له. ولكن بحسب إلى رومة يستطيع »في قراره الحرِّ أن يؤمن بالمحرِّر وينال النعمة«. ويتكرَّر هذا الإعلان في روم 9: يرتبط الاختيار الإلهيُّ بقبمعرفة الإيمان المقبل لدى الإنسان. فنداء الله يسبق فعل الإيمان، غير أنَّ الإرادة الحرَّة التي بها يقرِّر الإنسان مع نداء الله أو ضدَّه، هي حاسمة. و»تستحقُّ« أن تتقبَّل الروح القدس. مقابل هذا، في السؤال الثاني من الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس، رفض أوغسطين أن ترتبط النعمة باستحقاق الإنسان. ومع ذلك، فهو لا يشكِّك بالقرار الحرِّ، ويبيِّن حين يشرح رو 9 أنَّه إن سبقتنا رحمةُ الله ومنحتنا الإرادة، فأن نريد يكون من الله ومنّا في الوقت عينه. ولكن لكي يسند أوغسطين خيار الله المجّانيَ مستبعدًا كلَّ جور من عند الله، أكَّد أنَّ جميع البشر يستحقُّون بعدلٍ أن يُحكم عليهم وأنَّهم لا يُفلتون من هذا الحكم إلاَّ بفضل رحمة الله. وهكذا أتاحت لأوغسطين الدراسة المعمَّقة للرسالة إلى رومة وخصوصًا ف 7-9، أن يعمِّق نظرته إلى النعمة: هي تستبق كلَّ استحقاق لدى الإنسان. فلا يمكن أن تنفصل عن التحرير بالمسيح (رو 7: 24-25)، فتدلَّ على العبور من مرحلة »تحت الشريعة« إلى مرحلة »تحت النعمة«) وتشكِّل وحدة مع موهبة الروح. فالأسئلة اللاهوتيَّة التي كانت أسئلة أوغسطين، قادته لأن يطبِّق، بدون حقٍّ، على خلاص كلِّ إنسان كلام رو 9 الذي دلَّ على اختيار اليهود والأمم.

ب - شرح الرسالة إلى غلاطية

في إلى غلاطية، اهتمَّ أوغسطين بأن يوضح السياق التاريخيَّ للرسالة، وهدفَه الذي قابله بهدف الرسالة إلى رومة. فكما في إلى رومة، تضمَّن هذا التفسيرُ ملاحظات أنتيمانويَّة، ولكن بدا المرمى أوسع: نحسُّ باهتمامات أوغسطين الراعويَّة، وهو يرغب بأن يكوِّن إخوته ويصلح كنيسة أفريقيا، التي كانت مقسومة بفعل جدال الدوناتيِّين (رفضوا قبول التائبين الذين خافوا من الاضطهاد...)، ومتشرِّبة بعدُ من عادات وثنيَّة مثل اللجوء إلى التنجيم. وصورة بولس التي نكتشفها في هذا التفسير، هي صورة مؤسِّس جماعات مسيحيَّة، يعلن الإنجيل، ويدافع عن الحقيقة ضدَّ الذين يرتابون بها، ويعلن أنَّ المؤمنين الآتين من الأمم هم أيضًا أبناء إبراهيم، ويسعى أخيرًا ليشفي الشقاقات ويحافظ على الوحدة في المسيح. وحادثة أنطاكية مهمَّة من هذا القبيل. كان أوغسطين ضدَّ جيروم، فدافع عن عصمة الكتاب المقدَّس وأعلن أنَّ بولس لم يكذب. وهكذا برَّر بولسَ، لأنَّه لام بطرس أمام جميع المؤمنين إذ رآه يعود إلى العالم اليهوديّ: »ما كان مفيدًا أن يوبِّخ سرٌّا ضلالاً يُسيء جهرًا«. غير أنَّ أوغسطين شدَّد أيضًا على »مثال التواضع العظيم« الذي قدَّمه بطرس حين قبل الإصلاح الأخويَّ من بولس. وبالنسبة إلى 6: 1، عاد أوغسطين إلى واجب الإصلاح الأخويِّ وإلى طريقة ممارسته. فالتواضع، الذي هو أوَّلاً تواضع المسيح، هو القاعدة الكبرى في النظام المسيحيّ. فبه »تُحفظ المحبَّة«. فالتواضع هو »موهبة الروح الأولى والعظمى« التي تتيح للمؤمن أن يتجنَّب المنازعة والحسد. وهكذا نفهم بسهولة اهتمام أوغسطين بالرسالة إلى غلاطية: ما وجد فيها فقط تعليمًا نظريٌّا حول الشريعة، بل اكتشف فيها أيضًا مثالاً للمسؤول في الجماعة الكنسيَّة.

ج- الأسئلة 83 المختلفة

يفسِّر هذا الكتاب بعض النصوص البولسيَّة المهمَّة بالنسبة إلى الكرستولوجيّا (حول يسوع المسيح) والأنتروبولوجيا (حول الإنسان). إذا وجب على الابن نفسه أن يكون »خاضعًا لمن أخضع له كلَّ شيء« (1 كو 15: 28)، فهل نظنُّ أنَّ الابن ليس مساويًا للآب؟ وكيف نفهم لفظ »شكل« habitus في فل 2: 7: »في منظره عُرف كإنسان«. أو: في أيِّ معنى يُقال: »صورة الله اللامنظور« (كو 1: 15)؟ هذه الأسئلة هي مناسبة لأوغسطين بأن يؤكِّد في الوقت عينه مساواة الابن مع الآب، وواقع التجسُّد. والسؤال 69 المكرَّس لما في 1 كو 15: 20-28، يعلن أوَّلاً قاعدة الإيمان الكاثوليكيِّ regula fidei catholicae، التي بحسبها تعلن النصوص دُنوَّ الابن بالنسبة إلى الآب، يجب أن تُفهم مرارًا عن الابن في تجسُّده. والنصوص التي تُعلن أنَّه مساوٍ للآب تعني لاهوته: نحن نجد القولين في فل 2: 6 و2: 7. ولكن ينبغي أن نضيف أنَّ الابن هو غير الآب. فالذي هو مولود غير ذاك الذي يَلد. والصورة أيضًا (كو 1: 15) هي غير ذاك الذي هو صورته: فالآيات التي تعبِّر عن »صفات الأشخاص« (أو: الأقانيم) لا تؤثِّر على المساواة فيما بينهم. عندئذٍ نستطيع أن نفهم في أيِّ معنى ينبغي على المسيح أن »يملك إلى أن يجعل كلَّ أعدائه تحت قدميه« (1 كو 15: 25): فبالنظر إلى تجسُّده وحاشه (أو: آلامه)، هو »يملك الآن في المؤمنين باتِّضاعه، بعد أن أخذ صورة العبد«، ودمار كلِّ رئاسة وكلِّ قوَّة يحصل »بالتواضع والصبر والضعف«. ولكن حين يُقال أنَّ كلَّ شيء أُخضع له »ما عدا ذاك الذي أخضع له كلَّ شيء« (1 كو 15: 27)، فهذا يقال عنه »بالنظر إلى المبدأ الذي منه ينبثق«، »من حيث إنَّه صورته التي فيها يسكن كلُّ ملء الألوهة« (كو 1: 15؛ 2: 9). وأخيرًا، يتساءل أوغسطين إذا كانت آ28 (1 كو 15) تنطبق فقط على المسيح بما أنَّه رأس الكنيسة، أو على »المسيح الكامل الذي يضمُّ الجسد والأعضاء«. ويستخلص مبرهنًا انطلاقًا من غل 3: 16، 28-29؛ 1 كو 12: 12، 29 أنَّ الإعلان ينطبق على المسيح الكامل.

والسؤال 73 الذي يتطرَّق إلى فل 2: 7 يميِّز معنى لفظ شكل habitus، ويستبعد ما يتضمَّن تبدُّلاً في اللاهوت أو في الناسوت. والسؤال 74 المكرَّس إلى كو 1: 14-15 هو توضيح مضمون ألفاظ صورة imago مساواة aequalitas شبه similitudo. وفي النهاية يستنتج أوغسطين: الابن ليس »فقط صورة الله لأنَّه يصدر عنه، وشبهه لأنَّه صورة، ولكنَّه أيضًا مساوٍ له بحيث لا يُوجَد تقييد مسافة زمنيَّة«. هذا التحديد هو حاسم بالنسبة إلى الأنتروبولوجيا: ففي السؤال 51، وبحسب التقليد الآبائيّ، شرح أوغسطين: »أن يكون الإنسان صورة الله ومثاله، ]...[ غير أن يكون على صورة الله ومثاله«: فالتعبير الأوَّل يعني الابن. والثاني يعني الإنسان المخلوق. في النصوص اللاحقة، تخلَّى أوغسطين عن هذا التمييز واعتبر أنَّه أمر شرعيٌّ بأن نقول إنَّ الإنسان هو صورة الله. ففكرة المساواة التي ربطها السؤال 74 مع فكرتي العودة والمثال، جعلت مثل هذا القول ممكنًا لأنَّها قدَّمت وسيلة تعبير أخرى عن المسافة التي تفصل الإنسان عن ابن الله. ونستطيع أن نفترض أيضًا أنَّ قراءة 1 كو 11: 7 (الإنسان هو صورة ومجد الله) الذي أورده أوغسطين ليسند طريقته في الكلام على الثالوث، لم تكن غريبة عن هذا التبدُّل في الألفاظ(33). ونلاحظ أيضًا أهمِّيَّة الأنتروبولوجيا البولسيَّة في صياغة فكر أوغسطين، في تلك الحقبة: فاستعمل في السؤال 51، وفي الوقت عينه، التمييز بين الإنسان الخارجيِّ والإنسان الباطنيِّ (2 كو 4: 16)، والتمييز بين الإنسان القديم والإنسان الجديد (كو 3: 9-10)، والتمييز بين آدم الأوَّل وآدم الثاني (1 كو 15: 45-49). وميَّز في خطِّ بولس، من جهة، القيامة وتجديد الإنسان الباطنيِّ وهذا ما يتمُّ بموت الحياة السابقة موت الخطيئة، وبولادة إلى حياة جديدة، حياة البرّ. ومن جهة ثانية، القيامة المقبلة للإنسان الخارجيّ. مثل هذا التمييز يبقى ثابتة من ثوابت فكر أوغسطين.
 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:34 PM   رقم المشاركة : ( 155795 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس في طريقة التفسير عند أوغسطين

إن كان بولس لعب مثل هذا الدور في تكوين أوغسطين اللاهوتيّ، لن نندهش حين نرى أوغسطين يأخذ من بولس المبادئ التي وجَّهته في قراءته للكتاب المقدَّس: وخصوصًا للتفكير في العلاقة بين العهدين، القديم والجديد، وللتعرُّف إلى مختلف الطرق التي بها أشار الكتاب إلى المسيح.

أ - العهد القديم والعهد الجديد

»الحرف يقتل والروح يحيي«. هذه الجملة هي موقع كتابيٌّ رئيسيٌّ لكي نفكِّر في العبور من العهد القديم إلى العهد الجديد(34). وقد لعبت دورًا كبيرًا في مسيرة أوغسطين: إنَّ الطريقة التي بها استعمل أمبرواز هذه الآية ليجاوز صعوبات التفسير الحرفيّ، أتاحت لأوغسطين أن يتجاوز اعتراضات المانويِّين المتعلِّقة بالعهد القديم. وأبعد من إيراد صريح لما في 2 كو 3: 6 الذي يمكن أن نجده في كرازة أسقف ميلانو (أي أمبرواز)، لمَّح أوغسطين إلى الطريقة التي فيها اتَّبع أمبروازُ فيلون (فيلسوف الإسكندريَّة) وأوريجان، فدعا سامعيه أو قارئيه بأن لا يتوقَّفوا عند المعنى الحرفيِّ وحده، وأن يكتشفوا السرَّ، الفهم الروحيّ(35). إذًا، فهِمَ أوغسطين أوَّلاً 2 كو 3: 6 كمبدأ فساريّ(36)، وفائدة الإيمان(37) تشير إلى هذا التفسير وتطبِّقه على فرائض »السبت والختان والذبائح وأمور أخرى مشابهة«. فالمسيح ما جاء ليلغي العهد القديم، بل »حجابَه« فقط. وفهْمُ 2 كو 3: 6 بهذه الطريقة يدعو إذًا إلى »كشـف« revelari »الأسرار« mysteria أو »الخفيّات« secreta في العهد القديم بواسطة المسيح. ولكنَّ قراءة متنبِّهة لبولس خصوصًا في الرسالة إلى رومة، قادت أوغسطين (ربَّما بتأثير القاعدة 3 تيكونيوس، حاشية 26) إلى تفسير آخر لما في 2 كو 3: 6: ففي الكتاب الأوَّل إلى سمبليسيانوس، استضاءت أقوال مفارقة لدى بولس بالنسبة إلى الشريعة في رو 7 مع »الزوج« couple: »جديد الروح« و»عتيق الحرف« بواسطة 2 كو 3: 6. فالشريعة هي »الحرف وحده للذين تعلَّموا أن يقرأوها ولا يستطيعون أن يتمُّوها«. عندئذٍ هي تحكم على المؤمن وتقتله. أمَّا الروح (القدس) فيحيي، لأنَّ »روح المحبَّة الذي هو روح العهد الجديد« فيمنحنا أن نتمَّ الشريعة. وهكذا صارت 2 كو 3: 6 مفتاحًا لفهم تاريخ الخلاص. حافظ أوغسطين في جميع مؤلَّفاته على تأويلين لما في 2 كو 3: 6. فالتفسير الثاني المسيطر لا يُزيل الأوَّل: هو يوضح أنَّ الأوَّل يحافظ على قيمته وإن يكن الثاني »أكثر توافقًا وأفضل« (الحرف والروح 4: 5-6).

ونضيف إلى استعمال أوغسطين 2 كو 3: 6 كمبدأ فساريّ، العودةَ إلى 1 كو 10: 1-11 ثمَّ غل 4: 22-26، كأساس للتفسير الروحيّ. فالقراءة الرمزيَّة لأحداث الخروج في 1 كو 10: 1-11 جاءت تردُّ على المانويِّين لتبرِّر قراءة العهد القديم قراءة نبويَّة. شدَّد أوغسطين على سلطة كلام بولس. لسنا أمام »تكهُّن بشريّ«: فالله نفسه يتكلَّم عبر الرسول. إذًا، لا نستطيع أن نشرح بشكل يختلف عنه أسرار sacramenta سفر الخروج. غير أنَّ بولس لم يشرح سوى رمزٍ واحدٍ فقال: »والصخرة كانت المسيح«. فهو يدعونا لكي نبحث انطلاقًا من هنا عن مدلول سائر الرموز: عبور البحر، السحابة، المنّ. وتبقى هناك صعوبة: كيف استطاع بولس أن يقول إنَّ الآباء »أكلوا الطعام الروحيَّ عينه« الذي أكلناه؟ أما يُلغي هكذا عثار الصليب؟ ولكن تزول الصعوبة بلفظ »روحيّ«. فبعضهم لم يأكل في المنِّ سوى الطعام الجسديّ. ولكنْ »هناك آخرون كان المسيح في قلبهم حلاوة أكثر ممَّا كان للمنِّ في فمهم«. آمن الآباء »بالمسيح الذي سوف يأتي«. ونحن نؤمن اليوم »بالمسيح الذي أتى«، »ولكنَّه المسيح نفسه«! اختلفت العلامات، أمَّا الواقع الذي تدلُّ عليه فهو المنُّ (إنجيل يوحنّا 26: 12). في العظة 45 حول إنجيل يوحنّا، شدَّد أوغسطين مرَّة أخرى على تماهي الإيمان بالمسيح قبل مجيئه وبعده. فضمَّ 1 كو 10: 1-4 إلى 2 كو 4: 13: »وإذ لنا روح الإيمان عينه كما كُتب: آمنتُ ولهذا تكلَّمت، نؤمن نحن أيضًا ولهذا نتكلَّم«. توسَّع الموضوع توسُّعًا كبيرًا في الجدال مع البيلاجيِّين لكي تَبرز شموليَّةُ وساطة المسيح: لا نستطيع أن نستبعد أبرار العهد القديم من نعمة الوسيط (الإلهيّ)« (نعمة المسيح والخطيئة الأصليَّة 2/ 26: 31).

وفي شكل مماثل، استعمل أوغسطين غل 4: 22-26 ليؤسِّس شرعيَّة الأليغوريا(38). وشدَّد مرَّات عديدة على أنَّ التفسير الأليغوريّ في غل 4: 22-26 لا يستبعد قيمة المعنى الحرفيّ: فامرأتا إبراهيم ترمزان إلى العهدين، ولكنَّ إبراهيم نال في الحقيقة ابنين، واحدًا من المرأة الحرَّة، وآخر من الأمة (سؤال 65). ونتج من ذلك بشكل عامٍّ أنَّ هناك ثلاث طرق لتفسير نصٍّ ما: المعنى الخاصّ، المعنى الرمزيّ، أو المعنى الخاصّ والمعنى الرمزيّ (مدينة الله 17/3: 1-2). وهذا التمييز الذي تكفله »سلطةُ الرسول«، يلعب دورًا هامٌّا في مدينة الله (15-18)، لأنَّه يتيح لنا أن نرى علامة إسرائيل العهد القديم بالمدينتين. ونجد في الكتاب المقدَّس »ثلاثة أنواع من النبوءات: بعضها يشير إلى أورشليم الأرضيَّة، والبعض الآخر إلى أورشليم السماويَّة، وبعضها إلى هذه وتلك«. في الرسالتين اللتين ردَّ فيهما على البيلاجيِّين(39) عاد أوغسطين في الوقت عينه إلى غل 4: 22-26 وإلى 2 كو 3: 6 لكي يشرح بأنَّ هناك طريقتين للكلام عن العهد القديم. ويريد العُرف أن ندلَّ هكذا على »الشريعة وكلِّ الأنبياء الذين تنبَّأوا إلى يوحنّا«. غير أنَّ هذه التسمية غير دقيقة. فالأصحُّ أن نتكلَّم في هذا المعنى عن »أداة قديمة« vetus instrumentum. وطريقة الكلام الأخرى، التي تستند إلى سلطة الرسول »تدعو قديمًا العهدَ الذي أُقيم بواسطة موسى وتميَّز عن طريق المفارقة على أنَّه جديد »كلَّ ما أقيم منذ سنوات كثيرة، من أجل إبراهيم«. وتُفهَم طريقةُ الكلام هذه إذا اعتبرنا، من جهة، أنَّ »وحي العهد الجديد تمَّ بالمسيح حين تجلَّى في جسم بشريّ«، أي بعد عطيَّة الشريعة (كانت المواعيد الإلهيَّة مخفيَّة من قبل). ومن جهة أخرى، أنَّ هذا الوحي يعني »الإنسان الجديد« ساعة يبدأ كلُّ إنسان بالضرورة بـ»الإنسان القديم«. بحسب هذا المدلول، نستطيع أن نؤكِّد أنَّ إبراهيم والأبرار في الأزمنة القديمة، هم منذ الآن »أولاد الوعد والنعمة بحسب إسحاق، أولاد المرأة الحرَّة ووارثو الله لا بالنظر إلى الشريعة، بل الوعد، ووارثون مع المسيح«. هم »يخصُّون أورشليم العلويَّة التي هي أمُّنا«. وإيمانهم هو إيماننا عينه »فكانوا مسيحيِّين« لا بالاسم، بل بالحقيقة »حتَّى قبل مجيء المسيح. مثلُ هذا الفهم لتاريخ الخلاص هو في العمق فهمٌ بولسيّ.

ب - ثلاث طرق للكلام عن المسيح في الكتاب المقدَّس

ميَّزت عظة دولبو 22(40) في الكتاب المقدَّس ثلاث طرق للكلام عن المسيح: (1) بما أنَّه إله فهو أزليٌّ مع الآب. (2) بعد التجسُّد، بما أنَّه الإله الذي صار إنسانًا والإنسان الذي هو أيضًا الله«، وبما أنَّه »وسيط ورأس الكنيسة«. (3) وأخيرًا، بما أنَّه »المسيح الكامل في ملء الكنيسة، أي الرأس والجسد«. فالتمييز بين الشكل الأوَّل والشكل الثاني نقرأه في مطلع يوحنَّا كما في فل 2: 6-7. وشرح الشكل الثالث يقدِّم الإيرادات البولسيَّة العديدة التي ترتبط بموضوع الكنيسة عروس المسيح وجسده.

فأهمِّيَّة النشيد في رسالة فيلبِّي في مؤلَّفات أوغسطين جاء واضحًا في كتاب كرستولوجيا وروحانيَّة القدِّيس أوغسطين. النشيد في رسالة فيلبِّي(41). درس هذا الكتاب الطريقة التي بها عاد أوغسطين إلى فل 2: 6-7 في رباط مع قاعدة الإيمان regula fidei (ص 333- 400). لا حاجة للعودة إلى بداية استعمالات فل 2: 6-7 بعد أن قرأنا مثَلاً في سؤال 69. ولكنَّنا نتوقَّف عند الكتاب الأوَّل من الثالوث: قرأ فيه أوغسطين النصوص الكتابيَّة التي استغلَّها المانويُّون ضدَّ ألوهيَّة المسيح. حاولوا أن ينقلوا إلى طبيعة الابن الإلهيَّة عبارات كتابيَّة تشير إلى دنوِّه كإنسان، فردَّ أوغسطين عليهم حالاً بنصِّ فل 2: 7: »لاشى نفسه فأخذ صورة عبد«. واستنتج أنَّ »الابن صار أدنى من ذاته«. هو مساوٍ للآب في صورة الله forma dei وأدنى من ذاته في صورة عبد forma servi فالقاعدة التي نشير إليها لكي نحلَّ هذه المسألة بفضل مجمل الكتاب المقدَّس (كما قال)، تُؤخَذ من فصل في رسالة بولس الرسول حيث نتعلَّم هذا التمييز بشكل أكثر وضوحًا«. عندئذٍ أورد أوغسطين فل 2: 7 وجعل من الثنائيّ في صورة الله/في صورة العبد: in forma Dei/in forma servi الإطار الذي يعرض فيه الإعلانات الكتابيَّة التي تنطبق على الطبيعتين الإلهيَّة والبشريَّة. والدور الذي منحه أوغسطين إلى فل 2: 6-7 في التعبير عن قاعدة الإيمان regula fidei يشرح لجوءه العاديَّ إلى هاتين الآيتين ليزيل صعوبات في تفسير الكتاب المقدَّس: أو هو يتجاوز التعارض بين آيتين (مثلاً مز 78: 4 و2 كو 3: 2: كيف يكون المسيح في الوقت عينه »خبز الملائكة« و»لبن الأطفال«). أو هو يميِّز في نصٍّ من النصوص ما ينطبق على صورة الله forma Dei وما يُفهَم من صورة العبد forma servi (في مزمور مثل مز 86). ليس من قبيل الصدف أن يرجع أوغسطين مرارًا عديدة إلى نشيد فيلبِّي: فالمقطوعة البولسيَّة هي في قلب كرستولوجيَّته (حاشية 40، ص 482-499). إنَّها أتاحت له أن يؤكِّد بقوَّة كمال الطبيعة الإلهيَّة وكمال الطبيعة البشريَّة في المسيح، وفي الوقت عينه اتِّحادهما من دون امتزاج (ضدَّ فاوستوس 3/6) وهي تعبِّر أفضل تعبير عمق التلاشي والتمجيد الذي لا ينفصل عنه (مز 110/7: 20) وأخيرًا تدلُّ على مركزيَّة التواضع في حياة المسيحيّ (إنجيل يوحنّا 29: 8)

الإيرادات البولسيَّة جوهريَّة، كلَّ مرَّة يتساءل أوغسطين حول إمكانيَّة تطبيق آية على المسيح، لا يستطيع أن يقولها في شكل الله forma Dei ولا حتّى في شكل العبد forma servi بل على أنَّه المسيح الكامل Christus totus. مثل هذه الإيرادات عديدة في شروح المزامير(42): ففي نظر أوغسطين، يجب أن نسمع صوت المسيح في الزبور كلِّه، ولكن يجب أن نعرف إن كان يتكلَّم باسمه الخاصِّ أو باسم أعضائه. مثل هذا التأويل يفترض التأكيد بشدَّة على »وحدة الرأس والجسد«. وهذا ما يبرِّره أوغسطين بعونِ ملفٍّ كتابيٍّ يحتلُّ فيه بولس مركز الصدارة(43). هو يورد النصوص البولسيَّة حول الجسد والأعضاء (1 كو 12: 12؛ أف 5: 23)، حول وحدة الزواج (أف 5: 31-32). كما يورد نصوصًا يدلُّ فيها بولس على تماهيه مع المسيح (غل 2: 20؛ كو 1: 24)، وعلى احتواء المسيحيِّين في المسيح (غل 3: 16، 27-29). وتأثير تيكونيوس واضح، فالقاعدة الأولى تعود إلى ملفٍّ كتابيٍّ مشابه(44). وقراءة مقطع من المزامير (مز 31) يفهمنا كم تشرَّب أوغسطين من بولس: فسَّر آ2: »عليك يا ربُّ توكَّلت، فلا أخزَ إلى الأبد« فقال:

إذًا يتكلَّم المسيح هنا في النبيّ. أتجرَّأ فأقول: المسيح يتكلَّم. وهو يقول في هذا المزمور أمورًا تبدو وكأنَّها لا تليق بالمسيح، وبسموِّ رأسه، وخصوصًا بالكلمة الذي كان في البدء، الله لدى الله (يو 1: 1). ولكن يمكن أنَّها لا تليق به في صورة عبد (فل 2: 7) التي أخذها من العذراء. ومع ذلك، فالمسيح يتكلَّم لأنَّ في أعضاء المسيح يُوجَد المسيح. ولكي تعلموا أنَّ الرأس وجسده يُعتبَران مسيحًا واحدًا، قال هو نفسه متكلِّمًا عن الزواج: »يكون الاثنان في جسد واحد. إذًا ليسا هما اثنين، بل جسد واحد« (مت 19: 5-6). ولكن يقولون: ربَّما يتكلَّم عن أيِّ زواج كان؟ فنسمع بولس الرسول يقول: »يكونان اثنين في جسد واحد. هذا السرُّ عظيم وهو يعني المسيح والكنيسة« (أف 5: 31-32). هو جعل من نفسه شخصًا واحدًا انطلاقًا من اثنين، من الرأس والجسد، من العريس والعروس ]...[. إذا كانا اثنين في جسد واحد، لماذا لا يكونان اثنين في صوت واحد؟ إذًا، ليتكلَّم المسيح لأنَّ في المسيح تتكلَّم الكنيسة، وفي الكنيسة يتكلَّم المسيح، والجسد هو الرأس والرأس في الجسد. واسمع الرسول يعبِّر عن ذلك بوضوح أكثر: »كما أنَّ الجسد فيه وله أعضاء عديدة، وأنَّ جميع أعضاء الجسد، وإن كانت عديدة، تكوِّن جسدًا واحدًا. هكذا هو المسيح« (1 كو 12: 12). ولمَّا تكلَّم عن أعضاء المسيح أي عن المؤمنين، لم يقل: هكذا هي أعضاء المسيح، ولكنَّ هذا الكلَّ الذي يتكلَّم عنه، دعاه المسيح (حاشية 42، ترجمة).

ينتج عن مثل هذه الوحدة بين المسيح وبيننا »تبادلٌ عجيب«. »ما أنف أن يحوِّلنا إليه وأن يتكلَّم معنا بكلماتنا، لكي نتكلَّم نحن أيضًا بكلماته هو«. في عبارة »حوَّلنا إلى ذاته transfigurare nos in se نقرأ ترجمة فل 3: 21 التي قرأها أوغسطين بشكل: حوَّل جسد ضعفنا بحسب جسد مجده(45). بدَّل أوغسطين تبديلات لها مدلولها: إذ تحدَّث بولس عن تحوُّل جسدنا الذي سوف يتمُّ في القيامة، صوَّر أوغسطين هذا التحوُّل وكأنَّه حصل منذ الآن بفضل التجسُّد والحاش (أو: الآلام) وأضاف »إلى ذاته« in se فأبرز هكذا أنَّ تحوُّل المسيحيِّين يتمُّ في دخول في جسد المسيح. وأخيرًا لعب على معنى لفظ جسد corpus الذي يدلُّ في نظرة أوغسطين على جسد المسيح الفرديِّ وجسده الكنسيّ (حاشية 42، ص 380-388). غير أنَّ هذه التحوُّلات لها ما يبرِّرها العودة إلى رو 6: 6: »سُمِّر إنساننا العتيق معه على الصليب« (مز 38: 27؛ 143: 9؛ رسالة 140/6: 14-15). مثل هذه الطريق في الكلام عن الكنيسة وعن الخلاص، تركَّزت بشكل قويٍّ على المسيح ودلَّت علـى تأثـير بولـس العميق على أوغسطين.
 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:34 PM   رقم المشاركة : ( 155796 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




بولس المدافع عن النعمة مثال لأوغسطين

بسرٍّ عميق جدٌّا وخلاصيّ، كلُّ سمات الكتب المقدَّسة، بل وجهها، هو هنا لكي ينبِّه هؤلاء الذين يعرفون أن ينظروا إليه عن قرب: »من يفتخر فليفتخر في الربّ.«

هذه الأسطر في المجموعة(46) تضمُّ بقوَّة تعليم الكتاب المقدَّس في تنبيه بولس في 1 كو 1: 31. فالدعوة إلى الافتخار في الله ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعرُّف إلى النعمة: »ما هو الذي لك ولم تأخذه؟« (1 كو 4: 7). هذا يدلُّ على أنَّ التعليم البولسيَّ عن النعمة يوجز، في نظر أوغسطين، تعليم الكتاب المقدَّس. كما نعرف بشهادة مصير القدِّيسين المسبق(47) أنَّ هذه الآية التي أوردها القدِّيس قبريانوس ليبيِّن »أن لا نفتخر بشيء، لأنَّ لا شيء لنا«، عملَتْ على اقناع أوغسطين بأوَّليَّة النعمة بشكل جذريّ، ساعة ردَّ على أسئلة سمبليسيانوس. فالتعليم الأوغسطينيُّ حول النعمة يجد ينبوعه في رسائل بولس، كما يدلُّ على ذلك ملفُّ النصوص الكتابيَّة التي ذكرها أوغسطين (رو 5: 1ي؛ 7: 1ب؛ 9: 1ي؛ 1 كو 4: 7؛ 2 كو 3: 6؛ فل 2: 13؛ أف 2: 8؛ 1 تم 2: 4). بولس هو أرفع »من علَّم النعمة« و»كرز بها«. وهو أيضًا لها »الشاهد«. ولا يني أوغسطين يعود إلى مثاله لكي يدافع عنها(48).

أ - المدافع عن النعمة

إنَّ تفحُّصَ أولى تفاسير الرسالة إلى رومة، أتاح لنا منذ الآن أن نكتشف دور بداية التعليم الأوغسطينيِّ حول النعمة. لا مجال هنا لتأويل النصوص البولسيَّة التي تهمُّنا. ولكن لا بدَّ من أن نبيِّن كيف أنَّ أغسطين، في بداية الجدال مع البيلاجيِّين، يتوجَّه من جديد نحو بولس لكي يعمِّق النظرة إلى النعمة ويعمِّقها في وجه البيلاجيِّين. أتوقَّف بسبب المدلول الخاصِّ عند استحقاقات الخطأة والغفران(49) وعند الحرف والروح(50). في المؤلَّف الأوَّل الذي يعود إلى سنة 411-412، وسَّع أوغسطين التعليم حول النعمة في علاقتها بكلام عن الخطيئة الأصليَّة، وقابل بين المسيح وآدم بحسب تعليم رو 5: 12-21. في الروح والحرف (دُوِّن سنة 413) وسَّع التعليم انطلاقًا من تعارض بين الحرف والروح، متوسِّعًا في النظرة البولسيَّة إلى الشريعة، وواهبًا رو 5: 5 مكانة مركزيَّة: »أُفيضَ حبُّ الله في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا«.

والأسئلة التي طرحها »مَرسلاّن« تشرح بسهولة الإيرادات العديدة من الرسالة إلى رومة، التي نجدها في استحقاقات الخطأة(51). فحين أراد أوغسطين أن يردَّ على الذين يقولون »إنَّ آدم نفسه خُلق بحيث يكون مائتًا، ولو لم يخطأ، لا عقابًا على خطيئة، ولكن بضرورة طبيعته« (1/2: 2)، عاد بشكل صريح، في بداية الكتاب الأوَّل إلى 2 كو 5: 24؛ رو 8: 10-13، لكي يبيِّن أنَّ جسد الإنسان يمكن أن يكون مائتًا دون أن يُفرَض عليه أن يموت، لو لم تكن الخطيئة هناك. ثمَّ ضمَّ 1 كو 15: 21-22 إلى رو 5: 12، ليُثبت أنَّ نتيجة الخطيئة هي موت الجسد. إنَّ التفسير البيلاجيَّ لما في 5: 12 الذي يعارض نتيجة الخطيئة كما يعارض انتقاله بالتناسل، قاده إلى شرح رو 5: 12-21 شرحًا طويلاً (1/9: 9-15، 20)، ساعة لا يكاد النصُّ يرد في مؤلَّفات سابقة للجدال. وأخيرًا الاعتراضات المتعلِّقة بعماد الأطفال، جعلت أوغسطين »يكدِّس« الشهادات الكتابيَّة، خصوصًا تلك المأخوذة من بولس الرسول التي (كما قال) هي عديدة إلى درجة بأنَّه »دوَّن رسائل كثيرة وسهر بعناية كبيرة لكي يُبرز نعمة الله ضدَّ الذين يتشامخون بأعمالهم الصالحة وإذ يجهلون برَّ الله ويريدون أن يقيموا برَّهم، لا يخضعون لبرِّ الله« (رو 10: 3). وعالج الكتاب الثاني الطروحات البيلاجيَّة المتعلِّقة باللاخطأ impeccantia. عندئذٍ حاول أوغسطين أن يبيِّن مستندًا بشكل خاصٍّ إلى رو 7: 24-25 (2/12: 17)، إلى إقرار بولس الشخصيِّ في فل 3: 6-16 (2/13: 20)، أنَّ برَّ الإنسان يلبث ناقصًا على الأرض، وأنَّه ما من إنسان بلا خطيئة إلاَّ »الوسيط الوحيد بين الله والبشر، يسوع المسيح« (1 تم 2: 5). وأخيرًا، ناقش الكتابُ الثالث بعض تفاسير بولس التي قرأها بولس في شروح(52) بيلاج، وخصوصًا شرح رو 5: 12-13 و1 كو 7: 14 (3/2: 2-11، 19).

هذه الطروحات المتعلِّقة بالخطيئة الأصليَّة وبعماد الأطفال حرَّكت، على ما يبدو، جدالات في قرطاجة سنة 413، بحسب العظة 294(53). ينبغي بلا شكٍّ أن ننسب إلى هذه الجدالات المنظار الجديد الذي وسَّعه أوغسطين في الروح والحرف. فهذا المؤلَّف قدَّم قراءة إجماليَّة للرسالة إلى رومة، ليُثبت أنَّ الإنسان لا يقدر أن يكون بارٌّا بدون النعمة، أي بدون موهبة الروح (القدس). أمَّا البيلاجيُّون فاعتبروا أنَّ الإنسان يبلغ إلى البرِّ بقوَّة إرادته وبفضل الفرائض الإلهيَّة (2: 4-5، 8).

أمَّا أحد الأهداف الجوهريَّة لدى أوغسطين، فهو أن يوضح وضع الشريعة، ويحدِّد في أيِّ معنى يؤكِّد بولس في رو 3: 20 »أنَّ ما من بشر يتبرَّر بالشريعة قدَّام الله«. أمَّا بيلاج فماهى في تفسير رو 3: 20-21 بين أعمال الشريعة و»الختان والسبت واحتفالات أخرى« من هذا النوع، وقاوم أولئك الذين »يستغلُّون هذا المقطع ليلغوا أعمال البرّ« (في شرح رو 3: 20). ردَّ أوغسطين على مثل هذا التفسير، فبيَّن، مستندًا إلى رو 7 أنَّ »الحرف الذي يقتل« لا يدلُّ على الفرائض الطقوسيَّة وحدها، بل أيضًا على الشريعة بحيث تحرِّم الخطيئة، لأنَّها تضيف الشهوة وتزيد التعدِّي على الشرّ« (الروح والحرف 13: 21-25). وعطاء النعمة أي »الروح المحيي« يتيح لنا وحده أن نحبَّ الشريعة وبالتالي أن نتمَّها (الروح والحرف 14: 26-19: 32). ورأى فيها أوغسطين العهدَ الجديد الذي تنبَّأ به إر 31: 31-34: »الشريعة التي كتبها الله في القلوب«، ليست سوى الحضور الباطنيِّ للروح الذي يفيض المحبَّة فيبدِّد المخافة ويملأ بالفرح، »ويصنع فينا الإرادة والعمل بحسب إرادته« (فل 2: 13؛ الروح والحرف 19: 33-25: 42). تلك هي النعمة التي »تبرِّرنا« أي تجعلنا أبرارًا فتنقلنا من الخطيئة إلى البرّ (الروح والحرف 26: 45).

ب - المعترف بالنعمة

لا ينحصر الرفدُ البولسيّ، في نظر أوغسطين، في تعليمه. فوجه بولس هو شهادة ساطعة لما هي النعمة. عاد أوغسطين مرارًا إلى معنى اسم بولس Paulus. فاللفظ اللاتينيُّ يعني »القليل« peu. إن كان الرسول اتَّخذ اسم بولس فلأنَّه »آخر الرسل« (1 كو 4: 9). وتفسير 1 كو 15: 9-10 هو مناسبة دائمة لإظهار التعارض بين صِغر بولس (أنا أصغر الرسل) والعمل الذي قام به: »اشتغلتُ أكثر منهم كلِّهم...«. قال هذا ليبرز ما استطاعت نعمةُ الله أن تفعل في ذلك الذي هو وضيع. ذكر أوغسطين مرارًا اهتداء بولس في أع 9، وما اهتمَّ يومًا بأن يقابل مختلف أخبار سفر الأعمال، بل شدَّد على قدرة النعمة التي جعلت، في لحظة واحدة، من المضطهد كارزًا ومبشِّرًا. فإن استطاع المسيح أن يشفي »مريضًا« مثل بولس، فمن يقدر أن ييأس من فنِّ هذا الطبيب.

ورأى أوغسـطــين أيضًـا فــنَّ الطـبيـب في »شـوكـة الجسـد« (أو: اللحـم): sulumits hDa التي يشتكي منها بولس (2 كو 12: 7-10) التي هي أيضًا دواء ضدَّ الكبرياء (مز 59: 2، 5). فإن احتاج بولس، بمحبَّته الكبيرة، إلى طبيب، فمن يقدر أن يحسب نفسه بلا خطيئة؟ في سياق الجدال الأنتيبيلاجيّ، شدَّد أوغسطين على ضعف بولس، وهو ضعفُ يقرُّ به بولسُ نفسه. والذين يقولون إنَّ بولس لا يتكلَّم باسمه الشخصيِّ في رو 7: 15 (لا أفعل ما أريد، بل ما أكرهه إيَّاه أفعل)، قدَّم له أوغسطين في الخطبة 154 (3: 4-4: 5) فل 3: 12-14 الذي قد يفسِّره بعضهم طلبًا للاموت (= للخلود) لا للكمال. عندئذٍ أورد 2 كو 4: 7 (نحمل هذا الكنز في آنية من خزف) كما أورد 2 كو 12: 7 (ولئلاَّ أرتفع بفرط الإيحاءات وأتكبَّر). ما يُقرُّ به بولس هنا هو »ضعف نفسه« (أو: ضعفه الذاتيّ).

ولاحظ أوغسطين أنَّ بولس لم يخف من الاستشهاد، بل رغب فيه (2 تم 4: 6؛ فل 1: 23). ولكنَّه كان يفضِّل أن يرتدي الخلود وعدم الموت، دون أن يُعرَّى من الجسد (2 كو 5: 4). وأتت ثقتُه »لا من نفسه، بل من ذلك الذي وهب له كلَّ شيء«. وأخيرًا، ذكر أوغسطين »إكليل البرّ« (2 تم 4: 7-8) الذي استحقَّه بولس، وأضاف حالاً متوجِّهًا إليه: »أجل الإكليل الذي يحقُّ لك واجب لاستحقاقاتك، ولكنَّ استحقاقاتك هي مواهب من عند الله« (بيلاج 14: 35).

الخاتمة

كانت قراءة بولس حاسمة بالنسبة إلى أوغسطين. ولكن لا بدَّ من القول أيضًا أنَّ التفسير الأوغسطينيّ لبولس أثَّر تأثيرًا كبيرًا على الغرب. كيف نفسِّر مثل هذا التأثير؟ اعتبر بعضهم أنَّ النهج الذي استعمله أوغسطين في كرازته يمكن أن يشرح هذا الوضع: فأوغسطين جعل بولس يتكلَّم وتحاور معه، وأدخل عند الضرورة شخصًا ثالثًا. وهكذا صارت قراءة بولس القراءة التي يدافع عنها بولس نفسه. وفي تفاعل دقيق قوَّتْ سلطة بولس سلطة أوغسطين وسلطةُ أوغسطين سلطةَ بولس. ولكنَّ هذه الطريقة التي بها جعل أوغسطينُ بولسَ يتكلَّم، تكشف بدورها تصاحُبًا بين هذين الكبيرين. عرف أوغسطين نفسه في خبرة بولس وفي النهاية تماهى معه. لهذا فقراءة أوغسطين لبولس لا يمكن إلاَّ أن تحرِّك الفكر وتفتح الطريق إلى آفاق جديدة تمتدُّ امتداد الكنيسة.(54)
 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:39 PM   رقم المشاركة : ( 155797 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





بولس الرسول في التراث السريانيّ



اعتادت الكنائس السريانيَّة أن تقرأ رسائل القدِّيس بولس كلَّ يوم، سواء في القدَّاس أو في صلاة الفرض، حالاً قبل الإنجيل. وهي ما ميَّزت بين ما دوَّنه بولس وما دوَّنته المدرسة البولسيَّة، فكان لها أربع عشرة رسالة، حاسبةً »الرسالة إلى العبرانيِّين« رسالة بولسيَّة. هذا بالإضافة إلى رسالة ثالثة إلى أهل كورنتوس(1)، ورسالة إلى اللاودكيِّين قال عنها بولس في الرسالة إلى كولوسّي (4: 16): »وبعد قراءة هذه الرسالة عندكم، أرسلوها إلى كنيسة لاودكيَّة (مدينة في تركيّا) لتقرأها، واطلبوا رسالتي إلى لاودكيَّة لتقرأوها أنتم أيضًا«(2). متى نُقلت الرسائل البولسيَّة إلى السريانيَّة؟ أقلَّه منذ القرن الثالث، إن لم يكن في القرن الثاني وفي بدايته. فبالنسبة إلى الأناجيل، اعتادت الكنائس السريانيَّة أن تستعمل الإنجيل الرباعيّ أو دياتسّارون، الذي هو تنسيق الأناجيل انطلاقًا من إنجيل متّى. عاد الدياتسّارون(3) إلى القرن الثاني واستعمل نصوصًا سريانيَّة سابقة. هذا يعني أنَّ الرسائل البولسيَّة وُجدت في ذلك الوقت على أبعد تقدير.

أمّا مقالنا فيتوقَّف عند المجموعة البولسيَّة في الوسط السريانيّ، ثمَّ يتجوَّل مع الآباء الذين شرحوا القدّيس بولس. نبدأ مع الآباء السريان ثمَّ ننتقل إلى ما تُرجم عن اليونانيَّة.



1. المجموعة البولسيَّة

النسخة السريانيَّة للعهد الجديد، التي تستعملها الكنائس اليوم هي الترجمة »البسيطة«(4). أوَّل من استعمل هذه التسمية هو موسى بركيفا المتوفّي سنة 903(5). هذه النسخة التي ضمَّت العهدين القديم والجديد، بدت مكتملة في القرن الخامس، وذلك قبل أن تنفصل الكنيسة الغربيَّة والكنيسة الشرقيَّة الواحدة عن الأخرى(6). احتفظ الشرقيّون بالنصِّ الأساسيّ وما بدَّلوا فيه. وسنة 1328، نقرأ عند عبديشوع الصوباويّ لائحة بالأسفار المقدَّسة لم تتبدَّل، فما تضمَّنت رسالة بطرس الثانية ورسالتي يوحنّا الثانية والثالثة، ورسالة يهوذا وسفر الرؤيا(7). أمّا السريان الغربيّون، فحين اتَّصلوا بلاهوتيّين يكتبون في اللغة اليونانيَّة، أحسُّوا بالحاجة إلى نصٍّ جديد قريب من اللغة اليونانيَّة، وذلك منذ القرن السادس.

أوَّل طبعة لبسيطة العهد الجديد تمَّت في فيينّا من أعمال النمسا، سنة 1555، وأعيد نشرها مرارًا. سنة 1627، أضيف إليها سفر الرؤيا من الترجمة الحرقليَّة، وسنة 1630 الرسائل الأربع الناقصة (2 بط، 2 يو، 3 يو، يهو). هذا ما نجده في الطبعات اللاحقة حتّى نشرة لندن سنة 1950(8).

لا مجال للكلام عن الترجمة الفيلوكسينيَّة(9) التي تمَّت سنة 500-505 بيد الخورأسقف بوليكرب، وبناء على طلب المطران فيلوكسين، فجاءت حرفيَّة جدٌّا. لم يبقَ منها سوى القليل(10)، ولكنَّها احتفظت بالأسفار الناقصة في البسيطة (2 بط، 2 يو، 3 يو، يهو، رؤ). ثمَّ جاء توما الحرقليّ(11) فأعاد النظر في الترجمة الفيلوكسينيَّة، فقدَّم الترجمة »الحرقليَّة«(12). ولكن يبدو أنَّه كان نصٌّ قبل البسيطة، يدعوه العلماء »السريانيَّة العتيقة«(13) عُرفت في مخطوطين غير كاملين يتضمَّنان فقط الأناجيل ويعودان إلى القرن الخامس. الأولى الكيورتنيَّة التي نُشرت سنة 1858 بيد المستشرق وليم كيورتون(14). الثانية السينائيَّة التي كُشفتْ في دير القدِّيسة كاترينه في جبل سيناء ونُشرت سنة 1894(15). نشير إلى أنَّ جامعة السيِّدة في اللويزة (لبنان)، أعادت نشر هذين المخطوطين سنة 2002(16). ويبدو أنَّ سائر نصوص العهد الجديد نُقلت وهي الرسائل البولسيَّة الأربع عشرة، ورسالة يعقوب ورسالة بطرس الأولى ورسالة يوحنّا الأولى. انطلق النقلة من نصوص »السريانيَّة العتيقة« وقدَّموا لنا البسيطة، القريبة من اليونانيَّة. وفرض هذا الإجراء ربّولا، أسقف الرها من سنة 411 إلى سنة 435، ومنع استعمال الدياتسّارون، وأحرق نسخاته فلم تبقَ منه نسخة واحدة في السريانيَّة(17).

ولكن إذا احتفظت السريانيَّة العتيقة بالأناجيل الأربعة فقط، فأين نجد الرسائل البولسيَّة؟ حتّى الآن لم نجد نصٌّا متواصلاً، ولكنَّ الأكيد هو أنَّه وُجد نصٌّ شرحه أفرام السريانيّ شرحًا كاملاً، ولكنَّه ضاع في السريانيَّة ووُجد في الأرمنيَّة(18) وجاء من نشر سبع مئة إيراد أو تلميح إلى رسائل القدّيس بولس عند الكتّاب السريان الأوَّلين(19). عاد إلى أعمال توما المؤلَّفة من ستَّة عشر فصلاً والتي دوِّنت بمناسبة نقل رفات القدّيس توما إلى الرها. نشرها الأب بولس بيجان في سير الشهداء والقدّيسين(20). ثمَّ إلى مليتون السرديسيّ الذي عاش في القرن الثاني وكتب دفاعًا عن الدين الصحيح عنوانه »خطاب مليتون الفيلسوف أمام القيصر«(21). والكاتب الثالث هو مارا بن سرابيون، كان من مدينة شميشاط. كتب إلى ابنه سرابيون رسالة تعود إلى القرن الأوَّل أو القرن الثاني(22).

وتوقَّف الباحث مطوَّلاً عند أفراهاط الحكيم الفارسيّ الذي توفِّي في منتصف القرن الرابع كتب ثلاثًا وعشرين مقالة أو عظة(23) بين سنة 337 وسنة 345. عاش في بلاد فارس، وبالتالي بعيدًا عن التقليد اليونانيّ، ممَّا يجعل شهادته مميَّزة(24). نذكر على سبيل المثال ما ورد في المقالة الأولى: »ما وضع الناموس من أجل برِّهم، وهم كانوا ناموسًا لنفسهم«(25) (رو 2: 14). وفي المقالة الأولى أيضًا نقرأ رو 2: 25: »لكنْ معروفٌ هو أنَّ ختانتهم صارت غرلة«. ونقرأ في البسيطة: »إن تجاوزتَ الناموس صارت ختانتك غرلة«. ونقرأ في 1 تم 4: 5: »كلُّ المآكل مقدَّسة بكلمة الله وبالصلاة« (المقالة الأولى). جاءت هذه الآية كما يلي في البسيطة: »وما من شيء منبوذٌ إن أُخذ بالشكر. فهو مقدَّس بكلمة الله وبالصلاة«. ومن الرسالة إلى العبرانيّين نقرأ 9: 11 في البسيطة: »أمّا المسيح الذي أتى فكان رئيس كهنة الخيرات التي صَنع، ودخل إلى المسكن العظيم الكامل اللامعمول بالأيدي وما كان من هذه الخلائق«. جاء هذا النصُّ مرَّتين في المقالة الأفراطيَّة الأولى. »ودخل إلى بيت المقدس اللامعمول بالأيدي، وكان كاهنًا وخادمَ القدس«. وتكرَّرت الآية أو بعضها: »المسكن الذي ما صنع (ته) الأيدي، وما كان من هذه الخلائق«.

كان ماروتا أسقف ميافرقين (350-420)، وترك مقالاً في الهرطقات يحتوي على ثلاث عشرة هرطقة، وخطبة في الأحد الجديد. نشرها البطريرك رحماني(26). ونصل إلى أفرام السريانيّ (306-377)، وعنده نقرأ النصوص البولسيَّة في تفسير الدياتسّارون، في شرح الرسائل، في شرح سفري التكوين والخروج، في المدارش والميامر...

وها نحن نورد من شرح الدياتسّارون، رو 1: 2، 3: »من قبل وُعد في الكتب المقدَّسة على ابنه الذي تراءى في (جسم) بشريّ من زرع بيت داود«. قرأنا هنا »تراءى« (ا ت ح ز ي). أمّا في البسيطة فنقرأ »وُلد« (ا ت ي ل د). في اليونانيَّة، نقرأ فقط: صار genomenon ونقرأ أيضًا مرَّتين رو 8: 17: »إن نتألَّم معه نُمجَّد معه أيضًا«. كما نقرأ 1 كو 2: 8: »فلو عرفوه لما كانوا صلبوه«.

وقرأ الباحث الألمانيُّ ما ألَّف آية الله أسقف الرها (324-345) من رسالة إلى المسيحيّين في بلاد فارس، كما قرأ سيرة أوسيب الشميشاطيّ (+380) التي دوَّنها كاتب لم يُذكر اسمه(27)، ونشرها بولس بيجان في سير الشهداء والقدّيسين (الجزء السادس، ص 335-375) ومن تلاميذ أفرام، قورولونا، الذي ترك المقالات العديدة(28).

أمّا كتاب المراقي(29) الذي يُطلعنا على أحوال الكنيسة الرافدينيَّة في نهاية القرن الرابع، فأورد نصوصًا واسعة من رسائل القدِّيس بولس، بحيث نستطيع أن نكوِّن قسمًا من الرسائل وها نحن نقرأ الرسالة إلى رومة:

1: 7 وربُّ السلام يكون معكم، من الله أبينا ومن ربِّنا يسوع المسيح.

1: 20 كلُّ ما يُرى هو ظلٌّ لما لا يُرى وهو عابر (ورد ثلاث مرّات)

2: 14 لأنَّ الناموس لم يوضع للأبرار والمستقيمين والخيِّرين والصالحين. فهم وضعوا شريعة صالحة لنفسهم(30).

6: 16 لمَن تعطون مسمع الأذن فأنتم عبد له، إن للخطيئة وإن للبرّ (ورد مرَّتين)

6: 19 أنا أقول هذه: كما هيَّأتم أعضاءكم (لتكون) سلاح الخطيئة، هكذا تهيَّأوا لسماع أذن البرّ.

7: 24 أنا الأنسان الشقيّ من ينجِّيني من جسد الموت هذا.

7: 25 إلاَّ نعمة الله التي في ربِّنا يسوع المسيح.

8: 9 إن كان فيكم روح الله وإلاَّ أنتم مرذولون(31).

8: 10 إن (كان) المسيح فيكم، جسدًا مائتًا بسبب الخطيئة، فروح حيٌّ من أجل البرّ.

8: 15 ما أخذتم روح المخافة.

8: 17 إن تألَّمنا معه، معه نتمجَّد.

8: 18 أظنُّ أنا أنَّ آلام هذا الزمن والمسعى الذي يسعاه الكاملون، لا تساوي المجد والجمال اللذين يزمعون أن يقبلوا.

8: 20 وما رغبوا رغبة، بل على هذا الرجاء بحيث ينمون مثل الله... استُعبدت الخلائق للباطل، لا بإرادتها، بل من أجل ذاك الذي استعبدها (أخضعها) على الرجاء.

9: 3 يشهد لي الربُّ أنّي أردتُ أن أموت فيمجِّد الأشرارُ ربَّ المجد.

9: 14 الإثم لا يكون لدى البارّ.

11: 32 وما حبسهم الربّ... حبس الله بني إسرائيل لئلاَّ يطيعوا.

11: 33 ويجلو (يكشف) لهم عمق غنى حكمة يسوع المسيح.

12: 1 أطلب منكم يا إخوتي بوداعة المسيح وبتواضعه أن تقيموا

أجسادكم ذبيحة حيَّة ومقدَّسة ومقبولة في خدمة ناطقة.

12: 2 كونوا مميِّزين وناظرين أين هي إرادة الله المقبولة والكاملة...

فما صنعوا كلَّ إرادته العظيمة والمقبولة والكاملة

ويصنعون إرادة ربِّنا الصالحة والمقبولة والكاملة.

ووهب له ربُّنا القوَّة ليكون بحسب إرادته العظيمة والمقبولة والكاملة

إرادة ربِّنا العظيمة والمقبولة والكاملة(32).

12: 14 تكونون مباركين لا لاعنين (باركوا ولا تلعنوا).

12: 16 كونوا مختارين (= اختاروا) الذين هم وضعاء واتبعوهم.

12: 19 لكن لا تصنع دينونة لنفسك (أي: لا تنتقم)، فأنا أصنع لك دينونة (= أنا أنتقم)، قال الله.

والربُّ يصنع دينونتك لكن لا تصنع دينونة لنفسك.

إن تثبت في البرِّ ولا تصنع الدينونة لنفسك أنا أصنع دينونتك، يقول الله.

12: 20 إن جاع عدوُّك فأطعمه، وإن عطش فاسقه.

12: 21 أنتم غلبتم الشرّير بكلِّ الصالحات تجاه كلِّ إنسان.

اغلبوا الشرَّ بالخير

وظَفر وغُلب الشرُ كلُّه بالصالحات.

13: 1 لا سلطان إن لم يكن من الله.

13: 7 لمن له الوقار (الإكرام) الوقار، ولمن له الحبّ الحبّ، ولمن له المخافة المخافة.

لمن له الوقار الوقار، ولمن له المخافة المخافة، ولمن له السلام السلام.

وكونوا عارفين ما يتوجَّب لكلِّ إنسان: لمن له السلام ولمن له الحبّ والوداد ولمن له المخافة والوقار.

13: 8 ولا تكونوا مديونين لأحد إلاَّ أن يحبَّ الواحدُ الآخر (مرَّتين).

14: 2 هناك من يعتقد أنَّه (يقدر) أن يأكل كلَّ شيء، والذي هو مريض يأكل البقول.

14: 4 ومن هم الذين يدينون عبيدًا ليسوا خاصَّتهم. فإن سقطوا لربِّهم سقطوا وإن قاموا لربِّهم قاموا. وفي الحقيقة قيامًا يقيمهم.

14: 18 نُرضي الربَّ بقلبنا.

14: 21 يحسن بنا أن لا نأكل لحمًا ولا نشرب خمرًا.

هكذا يليق بنا أن لا نأكل لحمًا وأن لا نشرب خمرًا.

15: 1 ينبغي علينا أن نحتمل نحن الأقوياء أمراض المرضى.

ينبغي علينا نحن الأقوياء أن نحتمل مرض الضعفاء.

خذ مرضَ المرضى.

ينبغي عليكم أن تأخذوا مرض المرضى.

تأخذون مرض المرضى.

خذوا مرض المرضى.

16: 16 هبوا السلام (= سلِّموا) لكلِّ إنسان بالقبلة المقدَّسة والنقيَّة.

أردنا أن نورد الآيات البولسيَّة المأخوذة من الرسالة إلى رومة والواردة في كتاب المراقي. ويمكن أن نقول الشيء عينه بالنسبة إلى سائر الرسائل، مثلاً 1 كو 1: 22، 23: »اليهود يسألون الآيات والأراميّون يطلبون الحكمة، أمّا نحن فنكرز بيسوع المسيح وهو مصلوب«(33). أو 1 كو 5: 11: »إن كان أخٌ زانٍ أو مرذول أو طمّاع أو سكِّير، مع هكذا لا تأكلوا خبزًا«. أو 1 كو 9: 21، 22: »(آ22) مع المرضى صرت مريضًا لأربح المرضى (آ21) ومع الذين لاناموس لهم صرتُ مثل رجل لاناموس له. مع أنَّ قلبي هو في ناموس المسيح. لكي أربح الذين لا ناموس لهم«. وفي 1 كو 11: 27-30: »(آ27) من أكل جسد الربِّ وشرب دمه وهو غير مستحقّ، أخذ له (لنفسه) الدينونة والنار المتَّقدة في يوم الدينونة« (آ29) ثمَّ من يأكل جسد ربِّنا ويشرب دمه (آ329) يأكل ويشرب دينونة. وبما أنَّكم لم تدينوا (تجعلوا) أجسادكم (تميِّز) من المآكل ولم تتوسَّلوا إلى ربِّنا لكي ينجِّيكم (آ30) من أجل هذا كثيرون هم فيكم السقماء والمرضى ورقد كثيرون«(34).

وأخيرًا قرأ الباحث الألمانيُّ ما تركه بالاي الخورأسقف المقيم بقرب حلب، والعائش في النصف الأوَّل من القرن الخامس(35)، كما قرأ الخبر المنحول حول انتقال مريم(36) ومغارة الكنوز التي نُسبت إلى أفرام(37). وأعمال الشهداء(38) والكرونيكة الرهاويَّة(39).



2. شرح الرسائل البولسيَّة

نصوص عديدة من السريانيَّة العتيقة أشرنا إليها وما أوردناها كلَّها، ولا ذكرنا المحيط الذي وُلدت فيه، كما لم نذكر علاقتها بنصوص الترجمة البسيطة أو الحرقليَّة(40). فهناك أكثر من ترجمة سريانيَّة للعهد الجديد. كما كان هناك نقلٌ للعهد الجديد إلى أراميَّة فلسطين المسيحيَّة، التي تعود إلى القرن 5-6 والتي نجد نصوصها في كتاب القراءات، الذي تعود مخطوطاته إلى القرنين 11-12.



أ - الشروح السريانيَّة

أمّا الشروح(41) فهي على نوعين: تلك التي دُوِّنت في السريانيَّة، وتلك التي نُقلت عن اليونانيَّة.

نذكر أفرام أوَّلاً الذي ترك لنا شرحًا للدياتسّارون وصل إلينا في السريانيَّة وفي الأرمنيَّة. أمّا شرح أعمال الرسل(42) وشرح الرسائل البولسيَّة، فوصلا في اللغة الأرمنيَّة(43). فسَّر أفرام الرسائل البولسيَّة كلَّها ما عدا الرسالة إلى فيلمون. كما شرح الرسالة إلى العبرانيّين، وما نسيَ الرسالة الثالثة إلى كورنتوس التي سبق وأشرنا إليها. أمّا الأسلوب، فبعد مقدِّمة قصيرة، يرد التفسير آية آية مع التشديد على المعنى الحرفيّ وإزالة الصعوبات. ربَّما نكون هنا أمام »درس« يُعطى للطلاب في مدرسة نصيبين أو في مدرسة الرها. فنحن نعرف أنَّ رئيس المدرسة، في ذلك الوقت، هو من يقدِّم شرح الكتب المقدَّسة.

اقتدوا بي كما أنا (أقتدي) بالمسيح. بما أنَّكم أنتم ما رأيتم المسيح لكي يكون هو مثالاً لكم، فاقتدوا بي، وهكذا نحن أيضًا نركض للاقتداء بالمسيح.

وعظَّمهم حتّى الكبرياء قائلاً: أنا أمتدحكم، أيُّها الإخوة، لأنَّكم تذكروني في كلِّ شيء. كما استلمتُ الوصيَّة هكذا تتمسَّكون بها.

قال: رأس الرجل هو المسيح. أمّا رأس المرأة فهو رجلها. ورأس المسيح هو الله. بهذين المثلين أراد أن يبيِّن، كما الجسد الذي يُدعى المسيح هو من ذات الطبيعة مع الإنسان، فهو رأس الرجل. وكما الرجل هو مشارك في الطبيعة مع المرأة فهو رأس المرأة. وهكذا أيضًا رأس الابن ليس من طبيعة غريبة عن ذلك، لأنَّ الله هو من طبيعته وهو رأسه.

لهذا كلُّ رجل إذ يصلّي أو يتنبَّأ ورأسه مكشوف، يهين رأسه.

وكلُّ امرأة إذ تصلّي أو تتنبّأ ورأسها مكشوف، تهين رأسها. في الحقيقة أراد أن يقول هذا الكلام عن النساء اللواتي كنَّ في رومة وفي كورنتوس. وعن سائر المؤمنين الذين يدخلون إلى الكنيسة لكي يصلُّوا أو لكي يتنبَّأوا، فيتنبَّأون برأس مكشوف. هم ما كانوا يصنعون نجاسة وهم يتبعون عادة قديمة. ولكنَّ الرسول أراد بهذا الذي قاله عن رأس الرجل والمرأة أن يشير إلى حجاب يغطّي رؤوس النساء اللواتي كنَّ يتمشَّين منذ أيام القدم بدون حجاب يغطّي.

قال: ما خُلق الرجل من أجل المرأة، لكن كما أنَّ كلَّ شيء تكوَّن من أجل آدم، كذلك حوّاء خُلقت من أجل آدم.

لهذا يجب على المرأة أن تجعل الكرامة على رأسها من أجل الملائكة، أي الكهنة(44).

* * *

وبعد أفرام، تنتظر الكنيسة الغربيَّة القرن التاسع ليكون لها تفسير الرسائل البولسيَّة. وذلك مع موسى بركيفا (813-903). وُلد في بلدة كحيل (أو: مشهد كحيل) التي كانت مدينة مهمَّة واقعة على نهر دجلة قرب تكريت. التحق في صباه بدير مار سرجيس (على جبل بطمان الحاليّ). سنة 863 أقيم أسقفًا على بارمان (الفتحة الحاليَّة) وبيت كيونا (البوازيج) في منطقة تكريت. ثمَّ ضُمَّت إليه أبرشيَّة الموصل(45).

شرح موسى بركيفا العهدين القديم والجديد، كما قال ابن العبريّ في مخزن الأسرار. وما يهمُّنا تفسير رسائل القدّيس بولس، وإن لم يصل إلينا كاملاً(46). حُفظ في شرح ابن العبريّ في مخزن الأسرار.

أمّا ديونيسيوس ابن الصليبيّ فوُلد في مستهلِّ القرن الثاني عشر، في مدينة ملطية وتوفّي سنة 1171. سنة 1154 كان أسقفًا على أبرشيَّة مرعش. وسنة 1155 ضُمَّت أبرشيَّة منبج إلى أبرشيَّة مرعش. ومع ذلك، لبث منكبٌّا على الدرس والمطالعة والتأليف، بحيث أصبح من كبار المؤلِّفين أمثال يعقوب الرهاويّ وغيره، وأخصب أدباء زمانه.

شرح معظم أسفار العهد القديم وكلَّ أسفار العهد الجديد حتّى سفر الرؤيا. نُشر تفسير الأناجيل ونُقل إلى العربيَّة(47). أمّا رسائل القدّيس بولس فما زالت مخطوطة. وها نحن ننقل بداية الرسالة الأولى إلى كورنتوس.

وأيضًا نكتب السبب الذي (لأجله) دوِّنت الرسالة الأولى إلى كورنتوس. كورنتوس هي مدينة واقعة في رأس لسان البحر الذي يدخل في جزيرة (بيلوبونيز Peloponnèse). من أجل هذا، كانت تجارات كثيرة في كورنتوس.

كورنتوس هي رأس إلادا Hellade وتقع في برزخ (استموس isthme) وهو سعام لسان البحر والموضع الذي فيه يُدعى هذا اللسان فالوفونيسوس الذي هو جزيرة فالفوس Pelops وهو إنسان جبّار وفيه خرج الشرّير الذي رذله اليهود وفيه جُمعت كتب السحرة وعددها خمس ربوات وأحرقت. وفيها ضُرب بولس من قبل غاليون. وهي كثيرة بالشعب المعروف بالغنى والحكمة ولبث فيها الرسول سنتين وتراءى له ربُّنا فيها. وإذ رأى الشيطان أنَّ المؤمنين ارتدُّوا رمى فيهم الخلافات والانقسامات وشرعوا يجادلون هذا الرئيس، والآخرون الآخَر، هذا بسبب غناه، والآخر بسبب حكمته. وظهر فيه واحد ينام مع امرأة أبيه، وبدلاً من أن يوبِّخه الشعب افتخر به. ومنهم بسبب شراهتهم أكلوا ذبائح الأوثان ومنهم من قرَّب إلى القضاة قضاتهم وآخرون يربُّون شعرهم كالنساء ولا يشاركون المساكين يفتخرون بالألسن والمواهب ويصدّون القيامة. وإذ كتب لهم هذه (الكتابة) على هذه (الأمور) كتب لهم الصواب وأرسل لهم تيموتاوس مع الكتابة(48).

ونذكر أخيرًا في القرن الثالث عشر في الكنيسة السريانيَّة العربيَّة، غريغوريوس ابن العبريّ (1226-1286) الذي جمع في مخزن الأسرار شرح أسفار العهدين، وبينها رسائل القدِّيس بولس. استند إلى العديدين الذين سبقوه ولاسيَّما فيلوكسين المنبجيّ وسويريوس الأنطاكيّ ويعقوب الرهاويّ وموسى بركيفا. كما استند إلى إيشوعداد المروزيّ، من الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة(49).

وهكذا ننتقل إلى الكنيسة الشرقيَّة التي عرفت الجدالات العديدة على مستوى التفسير الكتابيّ. سيطرت شخصيَّة تيودور المصِّيصيّ مدَّة طويلة، ولمّا كان تحوُّل إلى يوحنّا الذهبيّ الفم، جاءت الحرومات ولاسيَّما في سينودس الأساقفة سنة 612(50) الذي دمَّر ما تركه حنانا من شروح.

فحنانا هذا الذي وُلد في النصف الأوَّل من القرن السادس وتوفِّي سنة 610، كان من مقاطعة حدياب. درس في نصيبين على يد إبراهيم بيت ربّان (509-569). ثمَّ علَّم في مدرسة نصيبين، غير أنَّ تعليمه لم يلائم التعاليم الشرقيَّة التقليديَّة. فطُرد في أيّام بولس مطران نصيبين. ولكنَّه عاد سنة 572 وتولَّى إدارة المدرسة حتَّى وفاته. فتوافد الطلاّب بالمئات بسبب تعليم حنانا المتجدِّد.

كتب عنه عبديشوع في الفهرس: »وضع حنانا الحديابيّ الكتب المقبولة: شروح المزامير، والتكوين وأيّوب، والأمثال وقوهلت (أو سفر الجامعة) ونشيد الأناشيد، وشرحًا للأنبياء الاثني عشر، وتفسير إنجيل القدِّيس مرقس، ورسائل بولس الرسول، وقانون الإيمان والأسرار...«(51)

أُتلفت آثار حنانا ولكن بقيَ عددٌ منها عند إيشوعداد المروزيّ، أسقف الحديثة كما في جنَّة النعيم(52).

أمّا تيودور بركونيّ فعاش في القرن الثامن، وعلَّم في مدرسة كشكر التي تأسَّست في القرن السادس. أمّا كتابه سكوليون أو كتاب الدريسات(53) فأفرد تسعة فصول أو مقالات (ميامر) حاول فيها الكاتب أن يوضح المسائل الصعبة في الكتب المقدَّسة، فكرَّس أربعة ميامر للعهد الجديد. وكانت الرسائل البولسيَّة الأربع عشرة حصَّة المقال التاسع: رومه، 1 و2 كورنتوس، غلاطية، أفسس، فيلبِّي، كولوسِّي، 1 و2 تسالونيكي، 1 و2 تيموتاوس، تيطس، فيلمون، العبرانيِّين. جاء شرح تيودور بشكل مساعد لفهم شروح المفسِّر، تيودور المصِّيصيّ، فهو تلميذه الأمين، وقد أورد عددًا من نصوصه. ولكنَّه أورد نصوصًا أخرى من أوريجان والآباء الكبادوكيِّين ولاسيَّما القدِّيس باسيل. ويبدو أنَّه وُجد مقتطفات لتيودور المصِّيصيّ مع غيره من الآباء رجع إليها تيودور بركوني(54).



إيضاح الرسالة إلى فيلبّي

أحبَّ الفيلبِّيُّون بولس كثيرًا. ولهذا نال المديح منهم في أمور كثيرة. فكتب لهم الرسول هذه الرسالة فعلَّمهم أمورًا عديدة. وبالأخصّ حذَّرهم بأن يحفظوا نفوسهم من جماعة الختان (أي: ينادون بالختان) فهؤلاء، على ما يبدو، قصدوا أن يُضلُّوهم لكي يُختَتنوا.

إذ كان في شبه (د م و ت ا) الله ما حسب اختطافًا (ح ط و ف ي ا) أن يكون مماثلاً (ف ح م ا) لله (فل 2: 6). أراد أن يقول بهذا: هو ما اختُطف اختطافًا كونه الله. فالاختطاف يقال حين يَخطف إنسانٌ درجةً ووقارًا (أو: إكرام) ليسا له.

وقال هذا: »أن أكتب لك الأشياء عينها« (فل 3: 1)، هي ليست في هذه الرسالة نكتبها أيضًا.

وهذه: ما كان لإنسان شركة معي في حساب الأخذ والعطاء (فل 4: 15). بدل: »هم يعطونه وهو يأخذ«.



إيضاح الرسالة إلى الكولوسِّيِّين

كتب الرسول هذه الرسالة (ووجَّهها) إلى الكولوسِّيِّين، هؤلاء الذين اقتبلوا التعليم بواسطة أبفراس (كو 1: 7). ولكنَّهم ما رأوا بولس بالوجه حتَّى الآن. فهؤلاء أيضًا حذَّرهم من هؤلاء الذين من الختان، وثبَّتهم في ما اقتبلوا.

بدل: أتى بنا إلى ملكوت ابنه الحبيب (1: 13) قال اليونانيّ: ابن حبِّه(55). فسَّر المفسِّر (أي تيودور المصّيصيّ) فقال: »دعاه ابن حبِّه، لأنَّه ليس الابن من طبيعة ما، ولكنَّه بالحبِّ تأهَّل بالبنوَّة بواسطة التصاقه بالوحيد، ابن طبع الآب.

»به خُلق كلُّ شيء« (1: 16). (قال هذا) لا عن الخلق الأوَّل، لكن على (الخلق) الجديد الذي كان ثانية بالمسيح.

أراد أن يسكن فيه كلُّ ملء الله (1: 19). دعا ملء الله، الكنيسة. قال: »أراد الله أن يسكن في المسيح كلُّ ملء الخليقة« التي امتلأت منه، لأنَّه أراد أن يلتصق بها.

وهذه: أكمِّل في لحمي (ودمي، في جسمي البشريّ) نقص مضايق المسيح (1: 24). طلب أن يقول بهذا إنَّ ربَّنا الذي سبق له وتألَّم من أجل مساعدة الجميع: »أكمِّل كلَّ ما ينقص من الضيقات من أجلهم«. جليٌّ أنَّه بواسطة الأتعاب والضيقات يُنمِّي بولس الإيمان بالمسيح بين الأمم.

كنوز الحكمة المخفيَّة في المسيح (2: 3). قال عن تلك المزمعة أن توهَب لنا عند ذاك لأنَّها الآن مخفيَّة.

عناصر العالم (2: 8). هنا أيضًا يُسمِّي: ملاحظات الأيّام.

وهذه: فيه يسكن كلُّ ملء اللاهوت جسميٌّا (2: 9). سمَّى ملء لاهوت الخليقة، أي بالمسيح تلتصق الخليقة كلُّها وهي مركَّبة فيه في شبه جسم. جليٌّ أنَّ كلَّ الخلائق تجدَّدت في المسيح، لأنَّها ارتبطت به في أخوَّة كيانيَّة.

دعا الناموسَ صكَّ ذنوبنا (2: 14).

الرئاسات والسلاطين التي عرَّى (عرّاهم) حين خلع لحمه (ودمه، جسمه البشريّ) (2: 5): كلّ الشياطين. دعا خلْعَ لحمه (ودمه) اللاموات (أو: الخلود).

وهذه: لكي تُستعبَدوا (تخضعوا) لعبادة الملائكة (2: 18). وهذا لأنَّ الذين اقتنعوا بحفظ الناموس، أتوا بالملائكة إلى الوسط (أي: جعلوهم يتدخَّلون) بحيث يُوهب (الناموس) كما بيدهم.

كُتبت (الرسالة إلى كولوسّي) من رومة (حيث بولس سجين، 4: 10). وأُرسلت بيد تيخيكس (4: 7)(56).

وعاصر تيودورَ بركوني كاتبٌ آخر صار كاثوليكوس في كنيسة المشرق، اسمه إيشوع برنون. وُلد في قرية كبَّاري التي كانت تقع بين نينوى الموصل عند مصبِّ نهر الخوسر في دجلة. وتلقَّى العلم على إبراهيم بردشفاد في مدرسة باشوش جنبًا إلى جنب مع تيموتاوس الأوَّل. وعُيِّن مفسِّرًا في مدرسة المداين. ثمَّ تركها بعد مدَّة وذهب إلى دير إيزلا الكبير...«(57) تحدَّث عنه عبديشوع أنَّه ترك »مباحث في الكتاب المقدَّس« جاءت في مجلَّدين. هي مسائل مختارة حول العهد القديم والعهد الجديد(58). هذه »المسائل« تتبع النصَّ البيبليّ ولا تضيف أمورًا لاتفسيريَّة كما فعل تيودور بركوني. هذان الكتابان أوردا تيودور المصِّيصيّ. ولكن يبدو أنَّ إيشوع تأثَّر بالذهبيِّ الفم وأوغريس البنطيِّ عبر حنانا.

واقترب من سكوليون تيودور بركوني، تفسيرٌ أغفل اسمه دُعيَ تفسير دياربكر(59)، لأنَّ المخطوط وُجد في هذه المدينة التي كان اسمها آمد. أمَّا نواة هذا التفسير فيعود إلى تيودور المصِّيصيّ، غير أنَّ الكاتب لم يستعمل أسلوب »السؤال والجواب« لهذا جاء كلامه شبيهًا بما نجد في الترجمة السريانيَّة لتيودور المصِّيصيّ الذي هو المرجع الرئيسيّ لهذا التفسير التيودوريّ المبسَّط.

وننهي هذه الجولة في الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة مع إيشوعداد المروزيّ، ابن القرن التاسع. هو ابن »مرو« في بلاد فارس. أصبح أسقفًا على الحديثة (على الضفَّة الشرقيَّة من نهر دجلة، بعد مصبِّ الزاب الكبير فيه) سنة 850، ثمَّ جاثليقًا سنة 853. قام بشروح العهدين القديم والجديد، ونُشرت كلُّها مع ترجمتها. بالنسبة إلى العهد القديم، في مجموعة الكتّاب الشرقيِّين(60). وبالنسبة إلى العهد الجديد، نُشرت النصوص مع الترجمة إلى الإنكليزيَّة في الربع الأوَّل من القرن العشرين(61). أمّا ما يتعلَّق برسائل القدِّيس بولس فنقرأه في الجزء الخامس(62).

استعمل إيشوعداد تفسير دياربكر ومؤلَّفات إيشوع برنون، كما انفتح على مراجع أخرى وُجدت في مكتبةٍ جمعَ مخطوطاتها الكاثوليكوس تيموتاوس الأوَّل. ثمَّ »أغنى الأساس التقليديّ للتأويل البيبليّ، فما اكتفى مثل سابقيه بإشارة سريعة إلى نصٍّ مشروح، بل قدَّم الإيراد كلَّه. نذكر مثلاً أوسيب الحمصيّ الذي وُجدت ترجمة آثاره في المكتبة المذكورة. واستفاد إيشوعداد من شروح الذهبيِّ الفم في ما يخصُّ الرسائل البولسيَّة والأناجيل. وما نلاحظ بشكل خاصٍّ هو أنَّ إيشوعداد استقى من سويريوس الأنطاكيِّ وكيرلُّس الإسكندرانيِّ، اللذين يعتبرهما التقليد الشرقيُّ من القائلين بالطبيعة الواحدة(63).

كتب الرسول الطوباويُّ هذه الرسالة إلى الكولوسِّيِّين مع أنَّه ما رآهم بعد. هناك من يقول إنَّ كولوسّي هي أيضًا في منطقة آسية. وبما أنَّ أناسًا من اليهود الذين آمنوا بالمسيح كانوا يطوفون في كلِّ مكان ويقنعون الذين آمنوا من الشعوب أنَّ عليهم أن يحفظوا الناموس أيضًا مع الإيمان بالمسيح. إذًا، أتى هؤلاء (اليهود) إلى الكولوسِّيِّين لأجل هذا الهدف. لهذا، سمع الرسول (بذلك)، فكتب إليهم هذه الرسالة، وثبَّتهم في الإيمان الذي تقبَّلوه من أبفراس، وحذَّرهم بحيث لا يسيرون وراء هؤلاء الذين من الختان...

تلك كانت مقدِّمة الرسالة إلى كولوسّي مع إشارة إلى السبب الذي لأجله كتبت: التنبُّه من أهل الختان. ويبدأ التفسير:

1: 12 هذه (الآية): الذي أهلَّنا إلى قسمة ميراث القدّيسين في النور. أي: أهَّلكم بواسطة معرفته إلى جوق القدِّيسين مع أنَّكم غرباء عن مخافة الله (أو: الديانة). في النور. أي بواسطة معرفته.

1: 13 هذه (الآية): أتى بنا إلى ملكوت ابنه الحبيب. اليونانيُّ قال: ابن حبِّه.

1:15 هو الذي هو شبه الله اللامنظور. قال اليونانيّ: صورة. ففيه كما في صورة منظورة نرى ونصوِّر في وجداننا هذه الطبيعة اللامنظورة. وبكر كلِّ الخلائق. في أماكن كثيرة، باسم البكر يبيِّن الكتاب الوقار لا قِدَم الولادة مثل هذه (الآية): »أجعله أيضًا بكرًا« (مز 89: 28) ثمَّ: »ابني، بكري إسرائيل« (خر 4: 22). أي أهل الوقار. ومن المعروف أنَّه كان قبلهم من دُعي: »أبناء الله«.» رأى أبناءُ الله« (تك 6: 3).

فالمسيح الذي هو في (جسم) بشريٍّ دُعيَ أيضًا من قبلُ بكر كلِّ الخلائق. وفي هذا صار من قبل في الحياة اللامائتة (أو: الخالدة) ومبدأ التجديد من جديد. وفي تلك التي لأهل رومة قال بجلاء: »ليكون بكر إخوة كثيرين« (8: 29) الذين هم أبناء شبهه (أي: يشبهونه). وأيضًا في (الرسالة) إلى العبرانيّين: »وكنيسة الأبكار المكتوبين« (12: 23)، فبيَّن عظمة الوقار الذي أُهِّلوا له، وليس لأنَّه قبْلَ إخوة آخرين، ولأنَّه أضاف كلَّ الخلائق أشار إلى ذاته على أنَّه أكثر وقارًا (أو: مجدًا) من الخليقة كلِّها.

1: 16 وبه خُلق كلُّ شيء، ما هو في السماء. ما قال »بيده« (أو: بواسطته)، بل به، لأنَّه ما تكلَّم عن الخلق الأوَّل لكن عن هذا التجديد الذي صار في المسيح، وهو الذي أتى بالخلائق التي انفصلت الواحدة عن الأخرى، إلى التوافق.



ب- التفاسير المنقولة عن اليونانيَّة

نحن نعرف العمل الجبَّار الذي قام به السريان حين ترجموا مؤلَّفات الآباء اليونان، خلال ثلاثة قرون من الزمن، أي الخامس والسادس والسابع(64). ففي القرن الخامس كتب يعقوب السروجيُّ رسالة إلى رهبان مار باسوس تُبيِّن كيف أنَّ مؤلَّفات ديودور الطرسوسيِّ كانت منقولة إلى السريانيَّة بحيث يقرأها الطلاَّب(65). أمَّا تيودور أسقف المصيصة فاعتُبر المفسِّر بلا منازع في مدرسة نصيبين. وتجاه ديودور وتيودور في المدرسة الأنطاكيَّة، تُرجمت آثار كيرلُّس أسقف الإسكندريَّة وكانت في متناول الطلاَّب(66).

نشير هنا إلى أنَّ عمل الترجمة من اليونانيَّة إلى السريانيَّة، سار في ثلاث مراحل. في الأولى كانت ترجمة حرفيَّة. في مرحلة ثانية، جاءت الترجمة حرَّة. وفي المرحلة الثالثة انتقلت النصوص إلى المؤلَّفات السريانيَّة مع ذكر صاحبها أو لا(67).

إذا أردنا أن نعرف المفسِّرين اليونان الذين انتقلوا إلى العالم السريانيِّ، ننطلق من التفاسير السريانيَّة، مثل إيشوعداد المروزيِّ وغيره، كما من »المختارات« التي ما زال عددٌ منها في بطون المخطوطات. ففي سنة 2000، تحدَّث فان رومباي عن توسُّع التفسير البيبليِّ في الكنائس السريانيَّة في القرون الوسطى(68). وبيَّن النصوص التي أخذت من الآباء اليونان. أمّا روماني(69) فقرأ مجموعة لندن التي تعود إلى الربع الثاني من القرن السابع، ووجد تفسيرًا على قسم كبير من أسفار العهد القديم والعهد الجديد. أمَّا الآباء المذكورون فهم أثناز، كيرلُّس، سويريوس الأنطاكيِّ، باسيل، غريغوار النازينزيُّ، غريغوار النيصيُّ، يوحنّا الذهبيُّ الفم.

أمَّا إذا عدنا إلى إيشوعداد المروزيِّ فنكتشف عددًا آخر من الآباء اليونان: أوريجان، لوقيان الأنطاكيّ، أبولينار أسقف اللاذقيَّة، إبيفان أسقف سلامينه، ديونيسيوس الأريوبّاجيّ...(70).

ونودُّ أن نعطي مثل تيودور المصيصيّ(71). أسلوبه متداخل مثل خيوط الألياف، لهذا لم يصل إلينا منه سوى مقاطع من الترجمات السريانيَّة تعود إلى القرن الخامس. منذ البداية اعتُبرت قراءته صعبة، فوجب تبسيط أسلوبه المعقَّد. لهذا كانت مجموعات (لم تطبع حتَّى الآن) من »أسئلة وأجوبة« منسوبة إلى تيودور(72). إنَّ تبسيط وشرح تيودور والدفاع عنه، وتكييف شروحه للنصِّ البيبليِّ السريانيّ، كلُّ هذا شكَّل عملاً تأويليٌّا قام به السريان الشرقيُّون. وتفسير دياربكر وتيودور بركوني وإيشوع برنون استعملوا هذه الموادَّ التأويليَّة أي تفاسير تيودور ومجموعة تقليديَّة تتضمَّن فيما تتضمَّن حلَّ المسائل الموجودة عند تيودور والشروح التي تأتي بحسب روحه وإن لم نستطع أن ننسبها إليه. ومع ذلك تابعوا عمل التبسيط والشرح والكتابة، كلٌّ بطريقته.

تحدَّثنا مطوَّلاً عن الطريقة التي بها تعامل السريان الشرقيُّون مع تيودور، وآخرهم إيشوعداد الذي لا يبدو أنَّه استقى منه مباشرة، بل عبر سابقيه في العالم السريانيِّ مثل تفسير دياربكر أو إيشوع برنون(73).

نتذكَّر هنا أنَّ تيودور ترك التفاسير العديدة. وما بقي لنا في العهد القديم، حول سفر التكوين، شرح المزامير وتفسير الأنبياء الاثني عشر، حيث وصلتنا في السريانيَّة مقاطع إن لم يكن شروح. وفي العهد الجديد، تفسير إنجيل يوحنّا الذي ضاع في اليونانيَّة ووُجد كاملاً في السريانيَّة. وما يهمُّنا أخيرًا، تفسير عشر رسائل للقدِّيس بولس. إلى غلاطية وأفسس وفيلبِّي وكولوسِّي وتسالونيكي (الأولى والثانية) وتيموتاوس (الأولى والثانية) وتيطس وفيلمون. ضاع هذا التفسير في اليونانيَّة أو أُتلف، ولكنَّه وُجد كاملاً في اللاتينيَّة عن ترجمة تعود إلى القرن الخامس وقد وُضعت على اسم أمبرواز أسقف ميلانو بحيث لا تُتلَف(74).

وصل إلينا في السريانيَّة مقاطع من تفسير هذه الرسائل ونحن نجدها بشكل خاصٍّ في جنَّة النعيم وعند إيشوعداد المروزيّ(75). وتحدَّث عبديشوع الصوباويّ (+1318) في فهرسه عن تفاسير حول رسائل مار بولس الأربع عشر. فوُجدت مقاطع كبيرة لشرح الرسائل الكبرى(76). هذه وُجدت في خمسة مخطوطات في الفاتيكان (762) أو موناكو (412) وغيرهما. وهذا ما يدلُّ على انتشار هذه التفاسير وتأثيرها في العالم السريانيِّ، بالإضافة إلى أسئلة تيودور المفسِّر الذي لا نجده إلاَّ في السريانيَّة.

وتجاه تيودور في الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة، أطلَّ الذهبيُّ الفم في الكنيسة السريانيَّة الغربيَّة فوصل تأثيره إلى الشرق، فكانت تلك الأزمة التي تحدَّثنا عنها. فمؤلَّفات يوحنّا انتقلت إلى السريانيَّة في ترجمة أو في أكثر من ترجمة. نذكر على سبيل المثال العظات حول إنجيل متّى وعددها تسعون عظة.

وفي ما يتعلَّق ببولس الرسول، وصل إلينا خمس عظات حول الرسالة إلى رومة. كانت عظات الذهبيِّ الفم هنا 32 عظة اعتُبرت من أجمل ما كتبه الآباء، فقال بعضهم: »إنَّ كنوز حكمة يوحنّا العالِم وافرة بشكل خاصٍّ في تفسيره للرسالة إلى رومة. وأظنُّ (ولا يمكن أن يُقال أني أكتب على سبيل الممالقة) أنَّ بولس الإلهيَّ لو أراد أن يقدِّم مؤلَّفاته في اللغة الأثينيَّة، ما كان تكلَّم إلاَّ مثل هذا المعلِّم المشهور، وهذا لأنَّ تفسيره يلفت النظر بمضمونه وجمال مبناه وعباراته الأدبيَّة« (العظة الخامسة، العدد 32).

ونُقلت العظات حول كورنتوس الأولى، وعددها أربع وأربعون. ناقشت هذه الرسالة المفهوم البولسيَّ للسرِّ المسيحيّ (العظة الثانية) وردَّت على الأنوميِّين الذين يقولون إنَّ الابن لا يشبه الآب. أمَّا العظة 40 حول 1 كو 15: 29 فتجعلنا في إطار سهرة الفصح:

أوَّلاً أريد أن أذكِّركم، أنتم الذين تنشَّأتم، ما أمركم منشِّئوكم في هذه الليلة الاحتفاليَّة أن تكرِّروه. ثمَّ أشرح لكم المقطع موضوع اهتمامنا، لأنَّه يسهل أن تفهموه. لا يأتي هذا المقطع على شفاهنا إلاَّ فيما بعد. أودُّ أن أتكلَّم بوضوح ولكنّي لا أجرؤ بسبب اللامتنشِّئين... بعد أن أُعلنَتْ لنا الأسرار والعبارات المقدَّسة والرهيبة التي تحتوي العقائد النازلة من السماء، ننهي هكذا حين ننال العماد: أؤمن بقيامة الموتى. في هذا الإيمان تُعطى لنا المعموديَّة: بعد أن نعترف بها نُغطَس في الاستحمام المقدَّس. وإليك ما ذكَّرنا به بولس حين قال: »إن لم يكن من قيامة فلماذا اعتماد للموتى؟« يعني للأجساد. أنتم تتقبَّلون المعموديَّة لأنَّكم تؤمنون بقيامة جسد ميت، وتؤمنون أنَّه لا يبقى في هذه الحالة... النزول في الماء والصعود يرمزان إلى النزول إلى الجحيم والصعود من هذا المثوى (حيث يكون الموتى). لهذا يدعو الرسول المعموديَّة قبرًا: »دُفنّا معه بالمعموديَّة في الموت«.

ونقدِّم أيضًا بداية العظة السابعة من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس التي تبدأ كما يلي: »ولكن هناك حكمة نتكلَّم عليها مع الكاملين وهي غير حكمة هذا الدهر ولا رؤساء هذا الدهر، وسلطانهم إلى زوال... (2: 6-7).

الظلمة تليق بشكل أفضل من النور للذين عيونهم مريضة. ولهذا يمضون فيلجأون بالأحرى إلى زاوية مظلمة. والشيء عينه يحصل بالنسبة إلى الحكمة الروحيَّة. فحكمة الله هي جهالة للغرباء، الذين لا يعرفون سوى حكمتهم الخاصَّة التي هي في الواقع جهالة. وضعُهم مثلُ وضع الذي امتهن الإبحار فيمضي في وسع البحار بدون شراع بل بدون سفينة. ويحاول أيضًا أن يبرهن بواسطة العقل أنَّ هذا ممكن. وآخر جاهلٌ كلَّ الجهل يجعل ثقته بالسفينة، بالملاّح، بالقبطان، وينطلق هكذا باطمئنان. فما ندعوه جهلاً عند هذا الأخير يتفوَّق بلا شكٍّ على علم الأوَّل. ففنُّ قيادة السفينة أمرٌ حلو. ولكن حين يعد بأكثر ممَّا يقدر أن يفي، فيصبح من جنس الجنون. فكلُّ فنٍّ ينحصر في حدوده ولكانت الحكمة الغريبة استحقَّت اسم هذه الحكمة لو أنَّها لجأت إلى الروح. ولكن حين استندت إطلاقًا إلى ذاتها، وأقنعت نفسها بأنَّها لا تحتاج إلى أيِّ عون، صارت جهالة بعد أن بدت أنَّها حكمة(77).

ونُقلت الرسالة الثانية إلى كورنتوس بعظاتها الثلاثين، فقدَّمت مع الأولى أفضل نموذج عن فكر يوحنّا وتعليمه. لا كلام عن الرسالة إلى غلاطية التي جاءت بشكل تفسير لا بشكل عظات، فيبدو أنَّ السريان لم ينقلوها. ولكن تمَّ نقل العظات الأربع والعشرين من الرسالة إلى أفسس. نشير إلى أنَّ هذه العظات قيلت في أنطاكية فحملت لاهوت أنطاكية حول النظرة إلى المسيح. أشارت العظة 11 إلى انشقاق في جماعة السامعين. وقدَّمت العظة 20 تعليمًا ساميًا حول الزواج المسيحيّ.

ونقرأ المقطع الثاني من العظة الثانية وبداية النصّ: »أيَّتها النساء اخضعن لأزواجكنَّ...«

»فكما الكنيسة خاضعة للمسيح« الذي هو الرمز الإلهيُّ للأسرة، »على النساء أن يخضعن لأزواجهنَّ كما للربّ«. واسمعوا التكملة: »أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة«. رأيتم عظمة كلام الرسول، وامتدحتم بولس وأُعجبتم به وهو ينظِّم حياتكم بحكمة كبيرة. هو إنسان روحيٌّ حقٌّا وبالتالي أهل لكلِّ إعجاب. لا بأس. ولكن اسمعوا الآن ماذا يطلب منكم. وإذ أراد أن يرسم واجباتكم واصلَ التشبيهَ عينه: »أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم كما المسيح أحبَّ الكنيسة«. ترون مقدار الخضوع، فانظروا مقدار المحبَّة. تريدون من المرأة أن تطيعكم كما الكنيسة تطيع المسيح، فاهتمُّوا كلَّ الاهتمام بها كما المسيح اهتمَّ بالكنيسة. إن وجب أن تضحُّوا بحياتكم من أجلها، أن تمزَّقوا تمزيقًا، أن تحتملوا كلَّ أنواع العذابات، فلا تتأخَّروا. وحين تفعلون كلَّ هذا، لا تكونون عملتم شيئًا شبيهًا بما عمله المسيح. أنتم تعملونه لشخص سبق واتَّحد بكم، أمّا المسيح ففعله لنفس تُبعده عنها وتَكرهه. ولكنَّه اهتمَّ واهتمَّ فتغلَّب على كرهها وبغضهما واحتقارها ونزواتها. وإذ جعلها عند قدميه، لم يستعمل التهديد ولا الكلام القاسي ولا التخويف ولا ما يشبه هذا. فتصرَّفوا بمثل هذه الطريقة تجاه نسائكم(78).

الرسالة إلى فيلبِّي بعظاتها الخمس عشرة تدافع عن سرِّ التجسُّد ردٌّا على الهراطقة، من مرقيون إلى بولس الشميشاطيِّ، إلى أريوس والأريوسيّين (العظة السابعة، 2: 5-11). شدَّد الواعظ على اللاهوت الكامل في المسيح وعلى الناسوت الكامل، الذي يتضمَّن النفس والجسد (ردٌّا على أبّولينار الذي اعتبر أنَّ اللاهوت حلَّ محلَّ النفس في يسوع). قال: »لا نمزج ولا نقسم. إله واحد. مسيح واحد ابن الله. حين أقول واحدًا، أتحدَّث عن الوحدة لا عن الذوبان. فالطبيعة الإلهيَّة لم تسقط بحيث صارت الطبيعةَ البشريَّة. فالطبيعتان متَّحدتان«.

ونُقلت العظات (12 عظة) حول الرسالة إلى كولوسِّي. تحدَّثت الأولى عن الصداقة. وتوقَّفت الثانية (1: 15-18) عند شخص يسوع المسيح. وشرحت الرابعة لماذا لم يأتِ المسيح إلى العالم من قبل. والخامسة بيَّنت كيف أنَّ العقل البشريَّ لا يقدر أن يفهم الأسرار وكلَّ ما يتجاوز الطبيعة. في السادسة مزَّق يسوع ودمَّر بموته الصكَّ الموضوع على البشريَّة. وعرضت السابعة التدبير والولادة الجديدة اللذين تمَّا في المعموديَّة...

وعرف السريان العظات حول الأولى إلى تسالونيكي (11 عظة)، والعظات حول الرسالة إلى تيطس (6 عظات). هل نقل السريان مثلاً العظات إلى العبرانيّين؟ إلى الآن لم تكشف المخطوطات شيئًا من العظات الأربع والثلاثين التي تلاها الذهبيُّ الفم في القسطنطينيَّة ونُشرت بعد موته بيد الأب قسطنطين أحد كهنة أنطاكية انطلاقًا ممّا أخذ عن طريق الاختذال. ولكن ما يلفت النظر هو عدد النصوص التي نُقلت إلى السريانيَّة وضاعت في اليونانيَّة. نذكر بعضها وإن لم تتعلَّق مباشرة بالرسائل البولسيَّة: تجارب يسوع والتجسُّد، أسبوع الآلام، مت 21: 28 والرحمة، عيد العنصرة، دعوة متّى، الخاطئة... كلُّ هذا يدلُّ على مكانة الذهبيِّ الفم في الكنيسة السريانيَّة(79).

لن نتوقَّف عند الآباء الكبادوكيِّين الذين كان أثرهم بالغًا في العالم السريانيِّ بحيث نُقلت آثارهم باكرًا وفي أكثر من ترجمة(80). إلاَّ أنَّ هؤلاء الآباء لم يتركوا لنا تفسيرًا للرسائل البولسيَّة. يبدو أنَّ أوريجان لم يُترجَم إلى السريانيَّة، وما بقي من أثناز لا يتعلَّق بالرسائل البولسيَّة. وكذا نقول عن أوغريس البنطيّ. أمّا كيرلُّس فترك لنا التفاسير الكتابيَّة حول الأسفار الخمسة وإشعيا ومتّى ولوقا ويوحنّا. ونشير إلى أنَّ تفسير لوقا جاء كاملاً ونُشر مع أكثر من ترجمة(81). أمّا الرسائل البولسيَّة التي نشرها بطريرك الإسكندريَّة هذا، فبقي منها مقاطع هنا وهناك. نعرف من السلسلات الكتابيَّة(82) أنَّ كيرلُّس شرح الرسائل البولسيَّة الكبرى، أي رو، 1 و2 كو، عب وبقيت مقاطع لا بأس بها(83).

ونورد مقطعًا من عظات يوحنّا الذهبيِّ الفم كما نقرأها في السريانيَّة لا كما في اليونانيَّة. فنعرف كيف تطوَّر الفكر اليونانيّ حين وصل إلى العالم السريانيّ.

فلماذا يُولد من عذراء؟ ولماذا يَحفظ بتوليَّتها؟

لأنَّها لمَّا كانت عذراء منذ القدم بشَّرها الملاك، ولكنَّ حوّاء منذ أن أُضلَّت ولدت كلمة علَّة الموت. أمّا مريم فعندما بُشرت ولدت الكلمة التي تدعونا إلى الحياة الأبديَّة. كلمة حواسّ علَّمت بالشجرة التي بها طُرد آدم من الفردوس، أمّا الكلمة التي ولدتها العذراء فعلَّمت بالصليب الذي بواسطته عاد اللصُّ الممثَّل لآدم، إلى الفردوس. فاليهود والوثنيّون لم يؤمنوا (وكذلك أصحاب البدع) أنَّه الله وُلد بدون ألم ولا زرع، ولهذا خرج اليوم من الجسد المتألِّم وحفظ الجسد بدون ألم لكي يظهر أنَّه لمّا وُلد من العذراء لم يثلم بتوليَّتها. هكذا وُلد بدون زرع وبقي جوهر القدّيسة كما هو. هكذا وُلد بشكل يليق بالله، ردٌّا على أولئك الذين صنعوا لهم تماثيل شبيهة بالبشر ليعبدوا آلهة حجريَّة تحقيرًا لخالقهم، فظهر لهم الله على شكل بشر ليزيل ما صنعوه باطلاً ويعودوا إلى عبادته، ويؤمن كلُّ من ابتعد عنه من اليهود والوثنيّين والهراطقة، ويعطي الرجاء للذين لا رجاء لهم والفرصة لمن فاتته، الذي له المجد والكرامة مع أبيه وروحه القدُّوس الآن وكلَّ أوان وإلى أبد الآبدين(84).

جاءت عظات الذهبيِّ الفم طويلة. أمّا التي نقلنا نهايتها فهي قصيرة جدٌّا، ونحن لم نجد ما يقابلها في النصوص اليونانيَّة. فنحن لسنا أمام ترجمة حرفيَّة ولا أمام ترجمة مختصرة. بل انطلق الكاتب الذي نجهل اسمه وقدَّم عظة استقى موادَّها من يوحنّا ودوَّنها بأسلوبه لتصلح بشكل عظة في الزمن الليتورجيّ. أمّا هذه فجُعلت »لتجسُّد ربِّنا يسوع المسيح ووالدة الإله العذراء القدّيسة«(85). وإليك هذا المقطع حول قيامة الربّ.

فالقيامة من بين الأموات كانت ضرورة حتميَّة لخلاصنا ورجاء كلِّ واحد فينا. وهكذا كانت قيامة مخلِّصنا من بين الأموات، لذلك يجب أن تُعلَن أمام جميع مَن تحت السماء.

لقد قام من بين الأموات، وصار بقيامته الطريق الساعي للحياة لنا كلِّها. فهو آدم الثاني. فكما بآدم متنا كلُّنا، هكذا بالمسيح نحيا كلُّنا (1 كو 15: 22). وهذا ما يقوله مار بولس: »وكما لبسنا مثال الترابيّ، كذلك سنلبس أيضًا صورة السماويّ (1 كو 15: 49). إذًا، لا يطلبْ أحدٌ الحيَّ بين الأموات (لو 24: 5)، لا يطلبْ أحدٌ الحيَّ بين القبور. فأين هو إذًا؟

إنَّه في السماء وبالمجد اللائق به. إنَّه في العروش العالية. ولكي تكون هذه الأمور حقيقة راسخة، لنَعُدْ بالذاكرة إلى ما قاله المسيح: »لا بدَّ له أن يُسلم بأيدي الخطأة ويتألَّم ويموت ويقوم في اليوم الثالث« (مت 20: 18) (مختارات، ص 209-210).

ويتواصل كلام الواعظ فيبيِّن أوَّلاً أنَّ الجسد الذي مات هو ذاته الذي قام. كان جسدًا حيوانيٌّا فصار جسدًا روحانيٌّا.

وهذا برهان واضح أنَّه ليس إنسانًا آخر، بل هو ذاته. فالذي رأوه يعاني سكرات الموت على الخشبة ثمَّ وُضع في القبر، هو الذي يكلِّمهم الآن مُثبتًا أنَّه غلب الموت واقتلعه من الإنسان. ولقد أمرهم أن يجسُّوا يديه ورجليه ومكان المسامير، فيسلِّموا بشكل أكيد أنَّ الذي تألَّم هو الذي قام. فلا يشكُّ أحدٌ بالقيامة، ولا يتزعزع رجاء أحد لكلِّ الساكنين تحت السماء. ولنسمع ما يقوله الكتاب الإلهيّ: »يُزرَع جسد حيوانيّ ويقوم جسدٌ روحانيّ« (1 كو 15: 44).

فكما أنَّ الجسد الحيوانيَّ يخضع للأهواء الحيوانيَّة (الجسديَّة)، كذلك الجسد الروحانيُّ يخضع لإرادة الروح القدس. فالجسد يتسلَّح ضدَّ الروح والروح ضدَّ الجسد (غل 5: 17). ولكن بعد القيامة تتوقَّف المعركة، إذ تَبطل أسلحةُ الجسد وتتوقَّف أهواؤه نهائيٌّا وتتحوَّل إلى سلام ومصالحة وانصياع لمتطلِّبات الروح. إنَّ الناموس الذي في الأعضاء (رو 7: 23) والناموس الذي يقف الآن ضدَّ ناموس عقلنا ويسبينا إلى الخطيئة (آ25) يُلغَى إذ يصبح الجسد روحانيٌّا. فالذي يسقط في الأرض يلبس عدم الفساد (1 كو 15: 54) ويحتقر الموت (مختارات، ص 211-212).



الخاتمة

تلك كانت مسيرتنا مع بولس الرسول في التراث السريانيِّ. منذ القديم تُرجمت نصوصه كما نصوص الأناجيل وشُرحت كما ذكرت في المقالات العددية. قدَّمنا نصوصًا وُجدت في تضاعيف الكتب التي دُوِّنت قبل البسيطة، ممَّا يدلُّ على أنَّ السريان لم ينتظروا هذه الترجمة الرسميَّة ليقرأوا الرسائل البولسيَّة. وشُرح مار بولس لدى الآباء السريان، كما نُقلت نصوصه إلى عالم اليونان فصارت إرثًا سريانيٌّا شأنها شأن ما كتبه السريان أنفسهم. فما من كنيسة تستطيع أن تنعزل عن نفسها، والتفاعل كان ظاهرًا في القديم وما زال ظاهرًا إلى الآن. ولكنَّنا نتحسِّر أنَّ الأدب السريانيَّ لم يُنشر بعد. فما زال »محفوظًا« في المخطوطات كما في سجن. ونحن ننتظر من الشرق السريانيِّ أن يعرِّف الغرب إلى غناه، بل يعرِّف الشرق الذي يعيش فوق كنز ثمين جدٌّا ولكنَّه يترك غناه لآخرين ويبقى طالبًا المياه يوم انطلق ماء الحياة من أرضه.

 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:39 PM   رقم المشاركة : ( 155798 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





بولس الرسول في التراث السريانيّ



اعتادت الكنائس السريانيَّة أن تقرأ رسائل القدِّيس بولس كلَّ يوم، سواء في القدَّاس أو في صلاة الفرض، حالاً قبل الإنجيل. وهي ما ميَّزت بين ما دوَّنه بولس وما دوَّنته المدرسة البولسيَّة، فكان لها أربع عشرة رسالة، حاسبةً »الرسالة إلى العبرانيِّين« رسالة بولسيَّة. هذا بالإضافة إلى رسالة ثالثة إلى أهل كورنتوس(1)، ورسالة إلى اللاودكيِّين قال عنها بولس في الرسالة إلى كولوسّي (4: 16): »وبعد قراءة هذه الرسالة عندكم، أرسلوها إلى كنيسة لاودكيَّة (مدينة في تركيّا) لتقرأها، واطلبوا رسالتي إلى لاودكيَّة لتقرأوها أنتم أيضًا«(2). متى نُقلت الرسائل البولسيَّة إلى السريانيَّة؟ أقلَّه منذ القرن الثالث، إن لم يكن في القرن الثاني وفي بدايته. فبالنسبة إلى الأناجيل، اعتادت الكنائس السريانيَّة أن تستعمل الإنجيل الرباعيّ أو دياتسّارون، الذي هو تنسيق الأناجيل انطلاقًا من إنجيل متّى. عاد الدياتسّارون(3) إلى القرن الثاني واستعمل نصوصًا سريانيَّة سابقة. هذا يعني أنَّ الرسائل البولسيَّة وُجدت في ذلك الوقت على أبعد تقدير.

أمّا مقالنا فيتوقَّف عند المجموعة البولسيَّة في الوسط السريانيّ، ثمَّ يتجوَّل مع الآباء الذين شرحوا القدّيس بولس. نبدأ مع الآباء السريان ثمَّ ننتقل إلى ما تُرجم عن اليونانيَّة.



1. المجموعة البولسيَّة

النسخة السريانيَّة للعهد الجديد، التي تستعملها الكنائس اليوم هي الترجمة »البسيطة«(4). أوَّل من استعمل هذه التسمية هو موسى بركيفا المتوفّي سنة 903(5). هذه النسخة التي ضمَّت العهدين القديم والجديد، بدت مكتملة في القرن الخامس، وذلك قبل أن تنفصل الكنيسة الغربيَّة والكنيسة الشرقيَّة الواحدة عن الأخرى(6). احتفظ الشرقيّون بالنصِّ الأساسيّ وما بدَّلوا فيه. وسنة 1328، نقرأ عند عبديشوع الصوباويّ لائحة بالأسفار المقدَّسة لم تتبدَّل، فما تضمَّنت رسالة بطرس الثانية ورسالتي يوحنّا الثانية والثالثة، ورسالة يهوذا وسفر الرؤيا(7). أمّا السريان الغربيّون، فحين اتَّصلوا بلاهوتيّين يكتبون في اللغة اليونانيَّة، أحسُّوا بالحاجة إلى نصٍّ جديد قريب من اللغة اليونانيَّة، وذلك منذ القرن السادس.

أوَّل طبعة لبسيطة العهد الجديد تمَّت في فيينّا من أعمال النمسا، سنة 1555، وأعيد نشرها مرارًا. سنة 1627، أضيف إليها سفر الرؤيا من الترجمة الحرقليَّة، وسنة 1630 الرسائل الأربع الناقصة (2 بط، 2 يو، 3 يو، يهو). هذا ما نجده في الطبعات اللاحقة حتّى نشرة لندن سنة 1950(8).

لا مجال للكلام عن الترجمة الفيلوكسينيَّة(9) التي تمَّت سنة 500-505 بيد الخورأسقف بوليكرب، وبناء على طلب المطران فيلوكسين، فجاءت حرفيَّة جدٌّا. لم يبقَ منها سوى القليل(10)، ولكنَّها احتفظت بالأسفار الناقصة في البسيطة (2 بط، 2 يو، 3 يو، يهو، رؤ). ثمَّ جاء توما الحرقليّ(11) فأعاد النظر في الترجمة الفيلوكسينيَّة، فقدَّم الترجمة »الحرقليَّة«(12). ولكن يبدو أنَّه كان نصٌّ قبل البسيطة، يدعوه العلماء »السريانيَّة العتيقة«(13) عُرفت في مخطوطين غير كاملين يتضمَّنان فقط الأناجيل ويعودان إلى القرن الخامس. الأولى الكيورتنيَّة التي نُشرت سنة 1858 بيد المستشرق وليم كيورتون(14). الثانية السينائيَّة التي كُشفتْ في دير القدِّيسة كاترينه في جبل سيناء ونُشرت سنة 1894(15). نشير إلى أنَّ جامعة السيِّدة في اللويزة (لبنان)، أعادت نشر هذين المخطوطين سنة 2002(16). ويبدو أنَّ سائر نصوص العهد الجديد نُقلت وهي الرسائل البولسيَّة الأربع عشرة، ورسالة يعقوب ورسالة بطرس الأولى ورسالة يوحنّا الأولى. انطلق النقلة من نصوص »السريانيَّة العتيقة« وقدَّموا لنا البسيطة، القريبة من اليونانيَّة. وفرض هذا الإجراء ربّولا، أسقف الرها من سنة 411 إلى سنة 435، ومنع استعمال الدياتسّارون، وأحرق نسخاته فلم تبقَ منه نسخة واحدة في السريانيَّة(17).

ولكن إذا احتفظت السريانيَّة العتيقة بالأناجيل الأربعة فقط، فأين نجد الرسائل البولسيَّة؟ حتّى الآن لم نجد نصٌّا متواصلاً، ولكنَّ الأكيد هو أنَّه وُجد نصٌّ شرحه أفرام السريانيّ شرحًا كاملاً، ولكنَّه ضاع في السريانيَّة ووُجد في الأرمنيَّة(18) وجاء من نشر سبع مئة إيراد أو تلميح إلى رسائل القدّيس بولس عند الكتّاب السريان الأوَّلين(19). عاد إلى أعمال توما المؤلَّفة من ستَّة عشر فصلاً والتي دوِّنت بمناسبة نقل رفات القدّيس توما إلى الرها. نشرها الأب بولس بيجان في سير الشهداء والقدّيسين(20). ثمَّ إلى مليتون السرديسيّ الذي عاش في القرن الثاني وكتب دفاعًا عن الدين الصحيح عنوانه »خطاب مليتون الفيلسوف أمام القيصر«(21). والكاتب الثالث هو مارا بن سرابيون، كان من مدينة شميشاط. كتب إلى ابنه سرابيون رسالة تعود إلى القرن الأوَّل أو القرن الثاني(22).

وتوقَّف الباحث مطوَّلاً عند أفراهاط الحكيم الفارسيّ الذي توفِّي في منتصف القرن الرابع كتب ثلاثًا وعشرين مقالة أو عظة(23) بين سنة 337 وسنة 345. عاش في بلاد فارس، وبالتالي بعيدًا عن التقليد اليونانيّ، ممَّا يجعل شهادته مميَّزة(24). نذكر على سبيل المثال ما ورد في المقالة الأولى: »ما وضع الناموس من أجل برِّهم، وهم كانوا ناموسًا لنفسهم«(25) (رو 2: 14). وفي المقالة الأولى أيضًا نقرأ رو 2: 25: »لكنْ معروفٌ هو أنَّ ختانتهم صارت غرلة«. ونقرأ في البسيطة: »إن تجاوزتَ الناموس صارت ختانتك غرلة«. ونقرأ في 1 تم 4: 5: »كلُّ المآكل مقدَّسة بكلمة الله وبالصلاة« (المقالة الأولى). جاءت هذه الآية كما يلي في البسيطة: »وما من شيء منبوذٌ إن أُخذ بالشكر. فهو مقدَّس بكلمة الله وبالصلاة«. ومن الرسالة إلى العبرانيّين نقرأ 9: 11 في البسيطة: »أمّا المسيح الذي أتى فكان رئيس كهنة الخيرات التي صَنع، ودخل إلى المسكن العظيم الكامل اللامعمول بالأيدي وما كان من هذه الخلائق«. جاء هذا النصُّ مرَّتين في المقالة الأفراطيَّة الأولى. »ودخل إلى بيت المقدس اللامعمول بالأيدي، وكان كاهنًا وخادمَ القدس«. وتكرَّرت الآية أو بعضها: »المسكن الذي ما صنع (ته) الأيدي، وما كان من هذه الخلائق«.

كان ماروتا أسقف ميافرقين (350-420)، وترك مقالاً في الهرطقات يحتوي على ثلاث عشرة هرطقة، وخطبة في الأحد الجديد. نشرها البطريرك رحماني(26). ونصل إلى أفرام السريانيّ (306-377)، وعنده نقرأ النصوص البولسيَّة في تفسير الدياتسّارون، في شرح الرسائل، في شرح سفري التكوين والخروج، في المدارش والميامر...

وها نحن نورد من شرح الدياتسّارون، رو 1: 2، 3: »من قبل وُعد في الكتب المقدَّسة على ابنه الذي تراءى في (جسم) بشريّ من زرع بيت داود«. قرأنا هنا »تراءى« (ا ت ح ز ي). أمّا في البسيطة فنقرأ »وُلد« (ا ت ي ل د). في اليونانيَّة، نقرأ فقط: صار genomenon ونقرأ أيضًا مرَّتين رو 8: 17: »إن نتألَّم معه نُمجَّد معه أيضًا«. كما نقرأ 1 كو 2: 8: »فلو عرفوه لما كانوا صلبوه«.

وقرأ الباحث الألمانيُّ ما ألَّف آية الله أسقف الرها (324-345) من رسالة إلى المسيحيّين في بلاد فارس، كما قرأ سيرة أوسيب الشميشاطيّ (+380) التي دوَّنها كاتب لم يُذكر اسمه(27)، ونشرها بولس بيجان في سير الشهداء والقدّيسين (الجزء السادس، ص 335-375) ومن تلاميذ أفرام، قورولونا، الذي ترك المقالات العديدة(28).

أمّا كتاب المراقي(29) الذي يُطلعنا على أحوال الكنيسة الرافدينيَّة في نهاية القرن الرابع، فأورد نصوصًا واسعة من رسائل القدِّيس بولس، بحيث نستطيع أن نكوِّن قسمًا من الرسائل وها نحن نقرأ الرسالة إلى رومة:

1: 7 وربُّ السلام يكون معكم، من الله أبينا ومن ربِّنا يسوع المسيح.

1: 20 كلُّ ما يُرى هو ظلٌّ لما لا يُرى وهو عابر (ورد ثلاث مرّات)

2: 14 لأنَّ الناموس لم يوضع للأبرار والمستقيمين والخيِّرين والصالحين. فهم وضعوا شريعة صالحة لنفسهم(30).

6: 16 لمَن تعطون مسمع الأذن فأنتم عبد له، إن للخطيئة وإن للبرّ (ورد مرَّتين)

6: 19 أنا أقول هذه: كما هيَّأتم أعضاءكم (لتكون) سلاح الخطيئة، هكذا تهيَّأوا لسماع أذن البرّ.

7: 24 أنا الأنسان الشقيّ من ينجِّيني من جسد الموت هذا.

7: 25 إلاَّ نعمة الله التي في ربِّنا يسوع المسيح.

8: 9 إن كان فيكم روح الله وإلاَّ أنتم مرذولون(31).

8: 10 إن (كان) المسيح فيكم، جسدًا مائتًا بسبب الخطيئة، فروح حيٌّ من أجل البرّ.

8: 15 ما أخذتم روح المخافة.

8: 17 إن تألَّمنا معه، معه نتمجَّد.

8: 18 أظنُّ أنا أنَّ آلام هذا الزمن والمسعى الذي يسعاه الكاملون، لا تساوي المجد والجمال اللذين يزمعون أن يقبلوا.

8: 20 وما رغبوا رغبة، بل على هذا الرجاء بحيث ينمون مثل الله... استُعبدت الخلائق للباطل، لا بإرادتها، بل من أجل ذاك الذي استعبدها (أخضعها) على الرجاء.

9: 3 يشهد لي الربُّ أنّي أردتُ أن أموت فيمجِّد الأشرارُ ربَّ المجد.

9: 14 الإثم لا يكون لدى البارّ.

11: 32 وما حبسهم الربّ... حبس الله بني إسرائيل لئلاَّ يطيعوا.

11: 33 ويجلو (يكشف) لهم عمق غنى حكمة يسوع المسيح.

12: 1 أطلب منكم يا إخوتي بوداعة المسيح وبتواضعه أن تقيموا

أجسادكم ذبيحة حيَّة ومقدَّسة ومقبولة في خدمة ناطقة.

12: 2 كونوا مميِّزين وناظرين أين هي إرادة الله المقبولة والكاملة...

فما صنعوا كلَّ إرادته العظيمة والمقبولة والكاملة

ويصنعون إرادة ربِّنا الصالحة والمقبولة والكاملة.

ووهب له ربُّنا القوَّة ليكون بحسب إرادته العظيمة والمقبولة والكاملة

إرادة ربِّنا العظيمة والمقبولة والكاملة(32).

12: 14 تكونون مباركين لا لاعنين (باركوا ولا تلعنوا).

12: 16 كونوا مختارين (= اختاروا) الذين هم وضعاء واتبعوهم.

12: 19 لكن لا تصنع دينونة لنفسك (أي: لا تنتقم)، فأنا أصنع لك دينونة (= أنا أنتقم)، قال الله.

والربُّ يصنع دينونتك لكن لا تصنع دينونة لنفسك.

إن تثبت في البرِّ ولا تصنع الدينونة لنفسك أنا أصنع دينونتك، يقول الله.

12: 20 إن جاع عدوُّك فأطعمه، وإن عطش فاسقه.

12: 21 أنتم غلبتم الشرّير بكلِّ الصالحات تجاه كلِّ إنسان.

اغلبوا الشرَّ بالخير

وظَفر وغُلب الشرُ كلُّه بالصالحات.

13: 1 لا سلطان إن لم يكن من الله.

13: 7 لمن له الوقار (الإكرام) الوقار، ولمن له الحبّ الحبّ، ولمن له المخافة المخافة.

لمن له الوقار الوقار، ولمن له المخافة المخافة، ولمن له السلام السلام.

وكونوا عارفين ما يتوجَّب لكلِّ إنسان: لمن له السلام ولمن له الحبّ والوداد ولمن له المخافة والوقار.

13: 8 ولا تكونوا مديونين لأحد إلاَّ أن يحبَّ الواحدُ الآخر (مرَّتين).

14: 2 هناك من يعتقد أنَّه (يقدر) أن يأكل كلَّ شيء، والذي هو مريض يأكل البقول.

14: 4 ومن هم الذين يدينون عبيدًا ليسوا خاصَّتهم. فإن سقطوا لربِّهم سقطوا وإن قاموا لربِّهم قاموا. وفي الحقيقة قيامًا يقيمهم.

14: 18 نُرضي الربَّ بقلبنا.

14: 21 يحسن بنا أن لا نأكل لحمًا ولا نشرب خمرًا.

هكذا يليق بنا أن لا نأكل لحمًا وأن لا نشرب خمرًا.

15: 1 ينبغي علينا أن نحتمل نحن الأقوياء أمراض المرضى.

ينبغي علينا نحن الأقوياء أن نحتمل مرض الضعفاء.

خذ مرضَ المرضى.

ينبغي عليكم أن تأخذوا مرض المرضى.

تأخذون مرض المرضى.

خذوا مرض المرضى.

16: 16 هبوا السلام (= سلِّموا) لكلِّ إنسان بالقبلة المقدَّسة والنقيَّة.

أردنا أن نورد الآيات البولسيَّة المأخوذة من الرسالة إلى رومة والواردة في كتاب المراقي. ويمكن أن نقول الشيء عينه بالنسبة إلى سائر الرسائل، مثلاً 1 كو 1: 22، 23: »اليهود يسألون الآيات والأراميّون يطلبون الحكمة، أمّا نحن فنكرز بيسوع المسيح وهو مصلوب«(33). أو 1 كو 5: 11: »إن كان أخٌ زانٍ أو مرذول أو طمّاع أو سكِّير، مع هكذا لا تأكلوا خبزًا«. أو 1 كو 9: 21، 22: »(آ22) مع المرضى صرت مريضًا لأربح المرضى (آ21) ومع الذين لاناموس لهم صرتُ مثل رجل لاناموس له. مع أنَّ قلبي هو في ناموس المسيح. لكي أربح الذين لا ناموس لهم«. وفي 1 كو 11: 27-30: »(آ27) من أكل جسد الربِّ وشرب دمه وهو غير مستحقّ، أخذ له (لنفسه) الدينونة والنار المتَّقدة في يوم الدينونة« (آ29) ثمَّ من يأكل جسد ربِّنا ويشرب دمه (آ329) يأكل ويشرب دينونة. وبما أنَّكم لم تدينوا (تجعلوا) أجسادكم (تميِّز) من المآكل ولم تتوسَّلوا إلى ربِّنا لكي ينجِّيكم (آ30) من أجل هذا كثيرون هم فيكم السقماء والمرضى ورقد كثيرون«(34).

وأخيرًا قرأ الباحث الألمانيُّ ما تركه بالاي الخورأسقف المقيم بقرب حلب، والعائش في النصف الأوَّل من القرن الخامس(35)، كما قرأ الخبر المنحول حول انتقال مريم(36) ومغارة الكنوز التي نُسبت إلى أفرام(37). وأعمال الشهداء(38) والكرونيكة الرهاويَّة(39).



2. شرح الرسائل البولسيَّة

نصوص عديدة من السريانيَّة العتيقة أشرنا إليها وما أوردناها كلَّها، ولا ذكرنا المحيط الذي وُلدت فيه، كما لم نذكر علاقتها بنصوص الترجمة البسيطة أو الحرقليَّة(40). فهناك أكثر من ترجمة سريانيَّة للعهد الجديد. كما كان هناك نقلٌ للعهد الجديد إلى أراميَّة فلسطين المسيحيَّة، التي تعود إلى القرن 5-6 والتي نجد نصوصها في كتاب القراءات، الذي تعود مخطوطاته إلى القرنين 11-12.



أ - الشروح السريانيَّة

أمّا الشروح(41) فهي على نوعين: تلك التي دُوِّنت في السريانيَّة، وتلك التي نُقلت عن اليونانيَّة.

نذكر أفرام أوَّلاً الذي ترك لنا شرحًا للدياتسّارون وصل إلينا في السريانيَّة وفي الأرمنيَّة. أمّا شرح أعمال الرسل(42) وشرح الرسائل البولسيَّة، فوصلا في اللغة الأرمنيَّة(43). فسَّر أفرام الرسائل البولسيَّة كلَّها ما عدا الرسالة إلى فيلمون. كما شرح الرسالة إلى العبرانيّين، وما نسيَ الرسالة الثالثة إلى كورنتوس التي سبق وأشرنا إليها. أمّا الأسلوب، فبعد مقدِّمة قصيرة، يرد التفسير آية آية مع التشديد على المعنى الحرفيّ وإزالة الصعوبات. ربَّما نكون هنا أمام »درس« يُعطى للطلاب في مدرسة نصيبين أو في مدرسة الرها. فنحن نعرف أنَّ رئيس المدرسة، في ذلك الوقت، هو من يقدِّم شرح الكتب المقدَّسة.

اقتدوا بي كما أنا (أقتدي) بالمسيح. بما أنَّكم أنتم ما رأيتم المسيح لكي يكون هو مثالاً لكم، فاقتدوا بي، وهكذا نحن أيضًا نركض للاقتداء بالمسيح.

وعظَّمهم حتّى الكبرياء قائلاً: أنا أمتدحكم، أيُّها الإخوة، لأنَّكم تذكروني في كلِّ شيء. كما استلمتُ الوصيَّة هكذا تتمسَّكون بها.

قال: رأس الرجل هو المسيح. أمّا رأس المرأة فهو رجلها. ورأس المسيح هو الله. بهذين المثلين أراد أن يبيِّن، كما الجسد الذي يُدعى المسيح هو من ذات الطبيعة مع الإنسان، فهو رأس الرجل. وكما الرجل هو مشارك في الطبيعة مع المرأة فهو رأس المرأة. وهكذا أيضًا رأس الابن ليس من طبيعة غريبة عن ذلك، لأنَّ الله هو من طبيعته وهو رأسه.

لهذا كلُّ رجل إذ يصلّي أو يتنبَّأ ورأسه مكشوف، يهين رأسه.

وكلُّ امرأة إذ تصلّي أو تتنبّأ ورأسها مكشوف، تهين رأسها. في الحقيقة أراد أن يقول هذا الكلام عن النساء اللواتي كنَّ في رومة وفي كورنتوس. وعن سائر المؤمنين الذين يدخلون إلى الكنيسة لكي يصلُّوا أو لكي يتنبَّأوا، فيتنبَّأون برأس مكشوف. هم ما كانوا يصنعون نجاسة وهم يتبعون عادة قديمة. ولكنَّ الرسول أراد بهذا الذي قاله عن رأس الرجل والمرأة أن يشير إلى حجاب يغطّي رؤوس النساء اللواتي كنَّ يتمشَّين منذ أيام القدم بدون حجاب يغطّي.

قال: ما خُلق الرجل من أجل المرأة، لكن كما أنَّ كلَّ شيء تكوَّن من أجل آدم، كذلك حوّاء خُلقت من أجل آدم.

لهذا يجب على المرأة أن تجعل الكرامة على رأسها من أجل الملائكة، أي الكهنة(44).

* * *

وبعد أفرام، تنتظر الكنيسة الغربيَّة القرن التاسع ليكون لها تفسير الرسائل البولسيَّة. وذلك مع موسى بركيفا (813-903). وُلد في بلدة كحيل (أو: مشهد كحيل) التي كانت مدينة مهمَّة واقعة على نهر دجلة قرب تكريت. التحق في صباه بدير مار سرجيس (على جبل بطمان الحاليّ). سنة 863 أقيم أسقفًا على بارمان (الفتحة الحاليَّة) وبيت كيونا (البوازيج) في منطقة تكريت. ثمَّ ضُمَّت إليه أبرشيَّة الموصل(45).

شرح موسى بركيفا العهدين القديم والجديد، كما قال ابن العبريّ في مخزن الأسرار. وما يهمُّنا تفسير رسائل القدّيس بولس، وإن لم يصل إلينا كاملاً(46). حُفظ في شرح ابن العبريّ في مخزن الأسرار.

أمّا ديونيسيوس ابن الصليبيّ فوُلد في مستهلِّ القرن الثاني عشر، في مدينة ملطية وتوفّي سنة 1171. سنة 1154 كان أسقفًا على أبرشيَّة مرعش. وسنة 1155 ضُمَّت أبرشيَّة منبج إلى أبرشيَّة مرعش. ومع ذلك، لبث منكبٌّا على الدرس والمطالعة والتأليف، بحيث أصبح من كبار المؤلِّفين أمثال يعقوب الرهاويّ وغيره، وأخصب أدباء زمانه.

شرح معظم أسفار العهد القديم وكلَّ أسفار العهد الجديد حتّى سفر الرؤيا. نُشر تفسير الأناجيل ونُقل إلى العربيَّة(47). أمّا رسائل القدّيس بولس فما زالت مخطوطة. وها نحن ننقل بداية الرسالة الأولى إلى كورنتوس.

وأيضًا نكتب السبب الذي (لأجله) دوِّنت الرسالة الأولى إلى كورنتوس. كورنتوس هي مدينة واقعة في رأس لسان البحر الذي يدخل في جزيرة (بيلوبونيز Peloponnèse). من أجل هذا، كانت تجارات كثيرة في كورنتوس.

كورنتوس هي رأس إلادا Hellade وتقع في برزخ (استموس isthme) وهو سعام لسان البحر والموضع الذي فيه يُدعى هذا اللسان فالوفونيسوس الذي هو جزيرة فالفوس Pelops وهو إنسان جبّار وفيه خرج الشرّير الذي رذله اليهود وفيه جُمعت كتب السحرة وعددها خمس ربوات وأحرقت. وفيها ضُرب بولس من قبل غاليون. وهي كثيرة بالشعب المعروف بالغنى والحكمة ولبث فيها الرسول سنتين وتراءى له ربُّنا فيها. وإذ رأى الشيطان أنَّ المؤمنين ارتدُّوا رمى فيهم الخلافات والانقسامات وشرعوا يجادلون هذا الرئيس، والآخرون الآخَر، هذا بسبب غناه، والآخر بسبب حكمته. وظهر فيه واحد ينام مع امرأة أبيه، وبدلاً من أن يوبِّخه الشعب افتخر به. ومنهم بسبب شراهتهم أكلوا ذبائح الأوثان ومنهم من قرَّب إلى القضاة قضاتهم وآخرون يربُّون شعرهم كالنساء ولا يشاركون المساكين يفتخرون بالألسن والمواهب ويصدّون القيامة. وإذ كتب لهم هذه (الكتابة) على هذه (الأمور) كتب لهم الصواب وأرسل لهم تيموتاوس مع الكتابة(48).

ونذكر أخيرًا في القرن الثالث عشر في الكنيسة السريانيَّة العربيَّة، غريغوريوس ابن العبريّ (1226-1286) الذي جمع في مخزن الأسرار شرح أسفار العهدين، وبينها رسائل القدِّيس بولس. استند إلى العديدين الذين سبقوه ولاسيَّما فيلوكسين المنبجيّ وسويريوس الأنطاكيّ ويعقوب الرهاويّ وموسى بركيفا. كما استند إلى إيشوعداد المروزيّ، من الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة(49).

وهكذا ننتقل إلى الكنيسة الشرقيَّة التي عرفت الجدالات العديدة على مستوى التفسير الكتابيّ. سيطرت شخصيَّة تيودور المصِّيصيّ مدَّة طويلة، ولمّا كان تحوُّل إلى يوحنّا الذهبيّ الفم، جاءت الحرومات ولاسيَّما في سينودس الأساقفة سنة 612(50) الذي دمَّر ما تركه حنانا من شروح.

فحنانا هذا الذي وُلد في النصف الأوَّل من القرن السادس وتوفِّي سنة 610، كان من مقاطعة حدياب. درس في نصيبين على يد إبراهيم بيت ربّان (509-569). ثمَّ علَّم في مدرسة نصيبين، غير أنَّ تعليمه لم يلائم التعاليم الشرقيَّة التقليديَّة. فطُرد في أيّام بولس مطران نصيبين. ولكنَّه عاد سنة 572 وتولَّى إدارة المدرسة حتَّى وفاته. فتوافد الطلاّب بالمئات بسبب تعليم حنانا المتجدِّد.

كتب عنه عبديشوع في الفهرس: »وضع حنانا الحديابيّ الكتب المقبولة: شروح المزامير، والتكوين وأيّوب، والأمثال وقوهلت (أو سفر الجامعة) ونشيد الأناشيد، وشرحًا للأنبياء الاثني عشر، وتفسير إنجيل القدِّيس مرقس، ورسائل بولس الرسول، وقانون الإيمان والأسرار...«(51)

أُتلفت آثار حنانا ولكن بقيَ عددٌ منها عند إيشوعداد المروزيّ، أسقف الحديثة كما في جنَّة النعيم(52).

أمّا تيودور بركونيّ فعاش في القرن الثامن، وعلَّم في مدرسة كشكر التي تأسَّست في القرن السادس. أمّا كتابه سكوليون أو كتاب الدريسات(53) فأفرد تسعة فصول أو مقالات (ميامر) حاول فيها الكاتب أن يوضح المسائل الصعبة في الكتب المقدَّسة، فكرَّس أربعة ميامر للعهد الجديد. وكانت الرسائل البولسيَّة الأربع عشرة حصَّة المقال التاسع: رومه، 1 و2 كورنتوس، غلاطية، أفسس، فيلبِّي، كولوسِّي، 1 و2 تسالونيكي، 1 و2 تيموتاوس، تيطس، فيلمون، العبرانيِّين. جاء شرح تيودور بشكل مساعد لفهم شروح المفسِّر، تيودور المصِّيصيّ، فهو تلميذه الأمين، وقد أورد عددًا من نصوصه. ولكنَّه أورد نصوصًا أخرى من أوريجان والآباء الكبادوكيِّين ولاسيَّما القدِّيس باسيل. ويبدو أنَّه وُجد مقتطفات لتيودور المصِّيصيّ مع غيره من الآباء رجع إليها تيودور بركوني(54).



إيضاح الرسالة إلى فيلبّي

أحبَّ الفيلبِّيُّون بولس كثيرًا. ولهذا نال المديح منهم في أمور كثيرة. فكتب لهم الرسول هذه الرسالة فعلَّمهم أمورًا عديدة. وبالأخصّ حذَّرهم بأن يحفظوا نفوسهم من جماعة الختان (أي: ينادون بالختان) فهؤلاء، على ما يبدو، قصدوا أن يُضلُّوهم لكي يُختَتنوا.

إذ كان في شبه (د م و ت ا) الله ما حسب اختطافًا (ح ط و ف ي ا) أن يكون مماثلاً (ف ح م ا) لله (فل 2: 6). أراد أن يقول بهذا: هو ما اختُطف اختطافًا كونه الله. فالاختطاف يقال حين يَخطف إنسانٌ درجةً ووقارًا (أو: إكرام) ليسا له.

وقال هذا: »أن أكتب لك الأشياء عينها« (فل 3: 1)، هي ليست في هذه الرسالة نكتبها أيضًا.

وهذه: ما كان لإنسان شركة معي في حساب الأخذ والعطاء (فل 4: 15). بدل: »هم يعطونه وهو يأخذ«.



إيضاح الرسالة إلى الكولوسِّيِّين

كتب الرسول هذه الرسالة (ووجَّهها) إلى الكولوسِّيِّين، هؤلاء الذين اقتبلوا التعليم بواسطة أبفراس (كو 1: 7). ولكنَّهم ما رأوا بولس بالوجه حتَّى الآن. فهؤلاء أيضًا حذَّرهم من هؤلاء الذين من الختان، وثبَّتهم في ما اقتبلوا.

بدل: أتى بنا إلى ملكوت ابنه الحبيب (1: 13) قال اليونانيّ: ابن حبِّه(55). فسَّر المفسِّر (أي تيودور المصّيصيّ) فقال: »دعاه ابن حبِّه، لأنَّه ليس الابن من طبيعة ما، ولكنَّه بالحبِّ تأهَّل بالبنوَّة بواسطة التصاقه بالوحيد، ابن طبع الآب.

»به خُلق كلُّ شيء« (1: 16). (قال هذا) لا عن الخلق الأوَّل، لكن على (الخلق) الجديد الذي كان ثانية بالمسيح.

أراد أن يسكن فيه كلُّ ملء الله (1: 19). دعا ملء الله، الكنيسة. قال: »أراد الله أن يسكن في المسيح كلُّ ملء الخليقة« التي امتلأت منه، لأنَّه أراد أن يلتصق بها.

وهذه: أكمِّل في لحمي (ودمي، في جسمي البشريّ) نقص مضايق المسيح (1: 24). طلب أن يقول بهذا إنَّ ربَّنا الذي سبق له وتألَّم من أجل مساعدة الجميع: »أكمِّل كلَّ ما ينقص من الضيقات من أجلهم«. جليٌّ أنَّه بواسطة الأتعاب والضيقات يُنمِّي بولس الإيمان بالمسيح بين الأمم.

كنوز الحكمة المخفيَّة في المسيح (2: 3). قال عن تلك المزمعة أن توهَب لنا عند ذاك لأنَّها الآن مخفيَّة.

عناصر العالم (2: 8). هنا أيضًا يُسمِّي: ملاحظات الأيّام.

وهذه: فيه يسكن كلُّ ملء اللاهوت جسميٌّا (2: 9). سمَّى ملء لاهوت الخليقة، أي بالمسيح تلتصق الخليقة كلُّها وهي مركَّبة فيه في شبه جسم. جليٌّ أنَّ كلَّ الخلائق تجدَّدت في المسيح، لأنَّها ارتبطت به في أخوَّة كيانيَّة.

دعا الناموسَ صكَّ ذنوبنا (2: 14).

الرئاسات والسلاطين التي عرَّى (عرّاهم) حين خلع لحمه (ودمه، جسمه البشريّ) (2: 5): كلّ الشياطين. دعا خلْعَ لحمه (ودمه) اللاموات (أو: الخلود).

وهذه: لكي تُستعبَدوا (تخضعوا) لعبادة الملائكة (2: 18). وهذا لأنَّ الذين اقتنعوا بحفظ الناموس، أتوا بالملائكة إلى الوسط (أي: جعلوهم يتدخَّلون) بحيث يُوهب (الناموس) كما بيدهم.

كُتبت (الرسالة إلى كولوسّي) من رومة (حيث بولس سجين، 4: 10). وأُرسلت بيد تيخيكس (4: 7)(56).

وعاصر تيودورَ بركوني كاتبٌ آخر صار كاثوليكوس في كنيسة المشرق، اسمه إيشوع برنون. وُلد في قرية كبَّاري التي كانت تقع بين نينوى الموصل عند مصبِّ نهر الخوسر في دجلة. وتلقَّى العلم على إبراهيم بردشفاد في مدرسة باشوش جنبًا إلى جنب مع تيموتاوس الأوَّل. وعُيِّن مفسِّرًا في مدرسة المداين. ثمَّ تركها بعد مدَّة وذهب إلى دير إيزلا الكبير...«(57) تحدَّث عنه عبديشوع أنَّه ترك »مباحث في الكتاب المقدَّس« جاءت في مجلَّدين. هي مسائل مختارة حول العهد القديم والعهد الجديد(58). هذه »المسائل« تتبع النصَّ البيبليّ ولا تضيف أمورًا لاتفسيريَّة كما فعل تيودور بركوني. هذان الكتابان أوردا تيودور المصِّيصيّ. ولكن يبدو أنَّ إيشوع تأثَّر بالذهبيِّ الفم وأوغريس البنطيِّ عبر حنانا.

واقترب من سكوليون تيودور بركوني، تفسيرٌ أغفل اسمه دُعيَ تفسير دياربكر(59)، لأنَّ المخطوط وُجد في هذه المدينة التي كان اسمها آمد. أمَّا نواة هذا التفسير فيعود إلى تيودور المصِّيصيّ، غير أنَّ الكاتب لم يستعمل أسلوب »السؤال والجواب« لهذا جاء كلامه شبيهًا بما نجد في الترجمة السريانيَّة لتيودور المصِّيصيّ الذي هو المرجع الرئيسيّ لهذا التفسير التيودوريّ المبسَّط.

وننهي هذه الجولة في الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة مع إيشوعداد المروزيّ، ابن القرن التاسع. هو ابن »مرو« في بلاد فارس. أصبح أسقفًا على الحديثة (على الضفَّة الشرقيَّة من نهر دجلة، بعد مصبِّ الزاب الكبير فيه) سنة 850، ثمَّ جاثليقًا سنة 853. قام بشروح العهدين القديم والجديد، ونُشرت كلُّها مع ترجمتها. بالنسبة إلى العهد القديم، في مجموعة الكتّاب الشرقيِّين(60). وبالنسبة إلى العهد الجديد، نُشرت النصوص مع الترجمة إلى الإنكليزيَّة في الربع الأوَّل من القرن العشرين(61). أمّا ما يتعلَّق برسائل القدِّيس بولس فنقرأه في الجزء الخامس(62).

استعمل إيشوعداد تفسير دياربكر ومؤلَّفات إيشوع برنون، كما انفتح على مراجع أخرى وُجدت في مكتبةٍ جمعَ مخطوطاتها الكاثوليكوس تيموتاوس الأوَّل. ثمَّ »أغنى الأساس التقليديّ للتأويل البيبليّ، فما اكتفى مثل سابقيه بإشارة سريعة إلى نصٍّ مشروح، بل قدَّم الإيراد كلَّه. نذكر مثلاً أوسيب الحمصيّ الذي وُجدت ترجمة آثاره في المكتبة المذكورة. واستفاد إيشوعداد من شروح الذهبيِّ الفم في ما يخصُّ الرسائل البولسيَّة والأناجيل. وما نلاحظ بشكل خاصٍّ هو أنَّ إيشوعداد استقى من سويريوس الأنطاكيِّ وكيرلُّس الإسكندرانيِّ، اللذين يعتبرهما التقليد الشرقيُّ من القائلين بالطبيعة الواحدة(63).

كتب الرسول الطوباويُّ هذه الرسالة إلى الكولوسِّيِّين مع أنَّه ما رآهم بعد. هناك من يقول إنَّ كولوسّي هي أيضًا في منطقة آسية. وبما أنَّ أناسًا من اليهود الذين آمنوا بالمسيح كانوا يطوفون في كلِّ مكان ويقنعون الذين آمنوا من الشعوب أنَّ عليهم أن يحفظوا الناموس أيضًا مع الإيمان بالمسيح. إذًا، أتى هؤلاء (اليهود) إلى الكولوسِّيِّين لأجل هذا الهدف. لهذا، سمع الرسول (بذلك)، فكتب إليهم هذه الرسالة، وثبَّتهم في الإيمان الذي تقبَّلوه من أبفراس، وحذَّرهم بحيث لا يسيرون وراء هؤلاء الذين من الختان...

تلك كانت مقدِّمة الرسالة إلى كولوسّي مع إشارة إلى السبب الذي لأجله كتبت: التنبُّه من أهل الختان. ويبدأ التفسير:

1: 12 هذه (الآية): الذي أهلَّنا إلى قسمة ميراث القدّيسين في النور. أي: أهَّلكم بواسطة معرفته إلى جوق القدِّيسين مع أنَّكم غرباء عن مخافة الله (أو: الديانة). في النور. أي بواسطة معرفته.

1: 13 هذه (الآية): أتى بنا إلى ملكوت ابنه الحبيب. اليونانيُّ قال: ابن حبِّه.

1:15 هو الذي هو شبه الله اللامنظور. قال اليونانيّ: صورة. ففيه كما في صورة منظورة نرى ونصوِّر في وجداننا هذه الطبيعة اللامنظورة. وبكر كلِّ الخلائق. في أماكن كثيرة، باسم البكر يبيِّن الكتاب الوقار لا قِدَم الولادة مثل هذه (الآية): »أجعله أيضًا بكرًا« (مز 89: 28) ثمَّ: »ابني، بكري إسرائيل« (خر 4: 22). أي أهل الوقار. ومن المعروف أنَّه كان قبلهم من دُعي: »أبناء الله«.» رأى أبناءُ الله« (تك 6: 3).

فالمسيح الذي هو في (جسم) بشريٍّ دُعيَ أيضًا من قبلُ بكر كلِّ الخلائق. وفي هذا صار من قبل في الحياة اللامائتة (أو: الخالدة) ومبدأ التجديد من جديد. وفي تلك التي لأهل رومة قال بجلاء: »ليكون بكر إخوة كثيرين« (8: 29) الذين هم أبناء شبهه (أي: يشبهونه). وأيضًا في (الرسالة) إلى العبرانيّين: »وكنيسة الأبكار المكتوبين« (12: 23)، فبيَّن عظمة الوقار الذي أُهِّلوا له، وليس لأنَّه قبْلَ إخوة آخرين، ولأنَّه أضاف كلَّ الخلائق أشار إلى ذاته على أنَّه أكثر وقارًا (أو: مجدًا) من الخليقة كلِّها.

1: 16 وبه خُلق كلُّ شيء، ما هو في السماء. ما قال »بيده« (أو: بواسطته)، بل به، لأنَّه ما تكلَّم عن الخلق الأوَّل لكن عن هذا التجديد الذي صار في المسيح، وهو الذي أتى بالخلائق التي انفصلت الواحدة عن الأخرى، إلى التوافق.



ب- التفاسير المنقولة عن اليونانيَّة

نحن نعرف العمل الجبَّار الذي قام به السريان حين ترجموا مؤلَّفات الآباء اليونان، خلال ثلاثة قرون من الزمن، أي الخامس والسادس والسابع(64). ففي القرن الخامس كتب يعقوب السروجيُّ رسالة إلى رهبان مار باسوس تُبيِّن كيف أنَّ مؤلَّفات ديودور الطرسوسيِّ كانت منقولة إلى السريانيَّة بحيث يقرأها الطلاَّب(65). أمَّا تيودور أسقف المصيصة فاعتُبر المفسِّر بلا منازع في مدرسة نصيبين. وتجاه ديودور وتيودور في المدرسة الأنطاكيَّة، تُرجمت آثار كيرلُّس أسقف الإسكندريَّة وكانت في متناول الطلاَّب(66).

نشير هنا إلى أنَّ عمل الترجمة من اليونانيَّة إلى السريانيَّة، سار في ثلاث مراحل. في الأولى كانت ترجمة حرفيَّة. في مرحلة ثانية، جاءت الترجمة حرَّة. وفي المرحلة الثالثة انتقلت النصوص إلى المؤلَّفات السريانيَّة مع ذكر صاحبها أو لا(67).

إذا أردنا أن نعرف المفسِّرين اليونان الذين انتقلوا إلى العالم السريانيِّ، ننطلق من التفاسير السريانيَّة، مثل إيشوعداد المروزيِّ وغيره، كما من »المختارات« التي ما زال عددٌ منها في بطون المخطوطات. ففي سنة 2000، تحدَّث فان رومباي عن توسُّع التفسير البيبليِّ في الكنائس السريانيَّة في القرون الوسطى(68). وبيَّن النصوص التي أخذت من الآباء اليونان. أمّا روماني(69) فقرأ مجموعة لندن التي تعود إلى الربع الثاني من القرن السابع، ووجد تفسيرًا على قسم كبير من أسفار العهد القديم والعهد الجديد. أمَّا الآباء المذكورون فهم أثناز، كيرلُّس، سويريوس الأنطاكيِّ، باسيل، غريغوار النازينزيُّ، غريغوار النيصيُّ، يوحنّا الذهبيُّ الفم.

أمَّا إذا عدنا إلى إيشوعداد المروزيِّ فنكتشف عددًا آخر من الآباء اليونان: أوريجان، لوقيان الأنطاكيّ، أبولينار أسقف اللاذقيَّة، إبيفان أسقف سلامينه، ديونيسيوس الأريوبّاجيّ...(70).

ونودُّ أن نعطي مثل تيودور المصيصيّ(71). أسلوبه متداخل مثل خيوط الألياف، لهذا لم يصل إلينا منه سوى مقاطع من الترجمات السريانيَّة تعود إلى القرن الخامس. منذ البداية اعتُبرت قراءته صعبة، فوجب تبسيط أسلوبه المعقَّد. لهذا كانت مجموعات (لم تطبع حتَّى الآن) من »أسئلة وأجوبة« منسوبة إلى تيودور(72). إنَّ تبسيط وشرح تيودور والدفاع عنه، وتكييف شروحه للنصِّ البيبليِّ السريانيّ، كلُّ هذا شكَّل عملاً تأويليٌّا قام به السريان الشرقيُّون. وتفسير دياربكر وتيودور بركوني وإيشوع برنون استعملوا هذه الموادَّ التأويليَّة أي تفاسير تيودور ومجموعة تقليديَّة تتضمَّن فيما تتضمَّن حلَّ المسائل الموجودة عند تيودور والشروح التي تأتي بحسب روحه وإن لم نستطع أن ننسبها إليه. ومع ذلك تابعوا عمل التبسيط والشرح والكتابة، كلٌّ بطريقته.

تحدَّثنا مطوَّلاً عن الطريقة التي بها تعامل السريان الشرقيُّون مع تيودور، وآخرهم إيشوعداد الذي لا يبدو أنَّه استقى منه مباشرة، بل عبر سابقيه في العالم السريانيِّ مثل تفسير دياربكر أو إيشوع برنون(73).

نتذكَّر هنا أنَّ تيودور ترك التفاسير العديدة. وما بقي لنا في العهد القديم، حول سفر التكوين، شرح المزامير وتفسير الأنبياء الاثني عشر، حيث وصلتنا في السريانيَّة مقاطع إن لم يكن شروح. وفي العهد الجديد، تفسير إنجيل يوحنّا الذي ضاع في اليونانيَّة ووُجد كاملاً في السريانيَّة. وما يهمُّنا أخيرًا، تفسير عشر رسائل للقدِّيس بولس. إلى غلاطية وأفسس وفيلبِّي وكولوسِّي وتسالونيكي (الأولى والثانية) وتيموتاوس (الأولى والثانية) وتيطس وفيلمون. ضاع هذا التفسير في اليونانيَّة أو أُتلف، ولكنَّه وُجد كاملاً في اللاتينيَّة عن ترجمة تعود إلى القرن الخامس وقد وُضعت على اسم أمبرواز أسقف ميلانو بحيث لا تُتلَف(74).

وصل إلينا في السريانيَّة مقاطع من تفسير هذه الرسائل ونحن نجدها بشكل خاصٍّ في جنَّة النعيم وعند إيشوعداد المروزيّ(75). وتحدَّث عبديشوع الصوباويّ (+1318) في فهرسه عن تفاسير حول رسائل مار بولس الأربع عشر. فوُجدت مقاطع كبيرة لشرح الرسائل الكبرى(76). هذه وُجدت في خمسة مخطوطات في الفاتيكان (762) أو موناكو (412) وغيرهما. وهذا ما يدلُّ على انتشار هذه التفاسير وتأثيرها في العالم السريانيِّ، بالإضافة إلى أسئلة تيودور المفسِّر الذي لا نجده إلاَّ في السريانيَّة.

وتجاه تيودور في الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة، أطلَّ الذهبيُّ الفم في الكنيسة السريانيَّة الغربيَّة فوصل تأثيره إلى الشرق، فكانت تلك الأزمة التي تحدَّثنا عنها. فمؤلَّفات يوحنّا انتقلت إلى السريانيَّة في ترجمة أو في أكثر من ترجمة. نذكر على سبيل المثال العظات حول إنجيل متّى وعددها تسعون عظة.

وفي ما يتعلَّق ببولس الرسول، وصل إلينا خمس عظات حول الرسالة إلى رومة. كانت عظات الذهبيِّ الفم هنا 32 عظة اعتُبرت من أجمل ما كتبه الآباء، فقال بعضهم: »إنَّ كنوز حكمة يوحنّا العالِم وافرة بشكل خاصٍّ في تفسيره للرسالة إلى رومة. وأظنُّ (ولا يمكن أن يُقال أني أكتب على سبيل الممالقة) أنَّ بولس الإلهيَّ لو أراد أن يقدِّم مؤلَّفاته في اللغة الأثينيَّة، ما كان تكلَّم إلاَّ مثل هذا المعلِّم المشهور، وهذا لأنَّ تفسيره يلفت النظر بمضمونه وجمال مبناه وعباراته الأدبيَّة« (العظة الخامسة، العدد 32).

ونُقلت العظات حول كورنتوس الأولى، وعددها أربع وأربعون. ناقشت هذه الرسالة المفهوم البولسيَّ للسرِّ المسيحيّ (العظة الثانية) وردَّت على الأنوميِّين الذين يقولون إنَّ الابن لا يشبه الآب. أمَّا العظة 40 حول 1 كو 15: 29 فتجعلنا في إطار سهرة الفصح:

أوَّلاً أريد أن أذكِّركم، أنتم الذين تنشَّأتم، ما أمركم منشِّئوكم في هذه الليلة الاحتفاليَّة أن تكرِّروه. ثمَّ أشرح لكم المقطع موضوع اهتمامنا، لأنَّه يسهل أن تفهموه. لا يأتي هذا المقطع على شفاهنا إلاَّ فيما بعد. أودُّ أن أتكلَّم بوضوح ولكنّي لا أجرؤ بسبب اللامتنشِّئين... بعد أن أُعلنَتْ لنا الأسرار والعبارات المقدَّسة والرهيبة التي تحتوي العقائد النازلة من السماء، ننهي هكذا حين ننال العماد: أؤمن بقيامة الموتى. في هذا الإيمان تُعطى لنا المعموديَّة: بعد أن نعترف بها نُغطَس في الاستحمام المقدَّس. وإليك ما ذكَّرنا به بولس حين قال: »إن لم يكن من قيامة فلماذا اعتماد للموتى؟« يعني للأجساد. أنتم تتقبَّلون المعموديَّة لأنَّكم تؤمنون بقيامة جسد ميت، وتؤمنون أنَّه لا يبقى في هذه الحالة... النزول في الماء والصعود يرمزان إلى النزول إلى الجحيم والصعود من هذا المثوى (حيث يكون الموتى). لهذا يدعو الرسول المعموديَّة قبرًا: »دُفنّا معه بالمعموديَّة في الموت«.

ونقدِّم أيضًا بداية العظة السابعة من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس التي تبدأ كما يلي: »ولكن هناك حكمة نتكلَّم عليها مع الكاملين وهي غير حكمة هذا الدهر ولا رؤساء هذا الدهر، وسلطانهم إلى زوال... (2: 6-7).

الظلمة تليق بشكل أفضل من النور للذين عيونهم مريضة. ولهذا يمضون فيلجأون بالأحرى إلى زاوية مظلمة. والشيء عينه يحصل بالنسبة إلى الحكمة الروحيَّة. فحكمة الله هي جهالة للغرباء، الذين لا يعرفون سوى حكمتهم الخاصَّة التي هي في الواقع جهالة. وضعُهم مثلُ وضع الذي امتهن الإبحار فيمضي في وسع البحار بدون شراع بل بدون سفينة. ويحاول أيضًا أن يبرهن بواسطة العقل أنَّ هذا ممكن. وآخر جاهلٌ كلَّ الجهل يجعل ثقته بالسفينة، بالملاّح، بالقبطان، وينطلق هكذا باطمئنان. فما ندعوه جهلاً عند هذا الأخير يتفوَّق بلا شكٍّ على علم الأوَّل. ففنُّ قيادة السفينة أمرٌ حلو. ولكن حين يعد بأكثر ممَّا يقدر أن يفي، فيصبح من جنس الجنون. فكلُّ فنٍّ ينحصر في حدوده ولكانت الحكمة الغريبة استحقَّت اسم هذه الحكمة لو أنَّها لجأت إلى الروح. ولكن حين استندت إطلاقًا إلى ذاتها، وأقنعت نفسها بأنَّها لا تحتاج إلى أيِّ عون، صارت جهالة بعد أن بدت أنَّها حكمة(77).

ونُقلت الرسالة الثانية إلى كورنتوس بعظاتها الثلاثين، فقدَّمت مع الأولى أفضل نموذج عن فكر يوحنّا وتعليمه. لا كلام عن الرسالة إلى غلاطية التي جاءت بشكل تفسير لا بشكل عظات، فيبدو أنَّ السريان لم ينقلوها. ولكن تمَّ نقل العظات الأربع والعشرين من الرسالة إلى أفسس. نشير إلى أنَّ هذه العظات قيلت في أنطاكية فحملت لاهوت أنطاكية حول النظرة إلى المسيح. أشارت العظة 11 إلى انشقاق في جماعة السامعين. وقدَّمت العظة 20 تعليمًا ساميًا حول الزواج المسيحيّ.

ونقرأ المقطع الثاني من العظة الثانية وبداية النصّ: »أيَّتها النساء اخضعن لأزواجكنَّ...«

»فكما الكنيسة خاضعة للمسيح« الذي هو الرمز الإلهيُّ للأسرة، »على النساء أن يخضعن لأزواجهنَّ كما للربّ«. واسمعوا التكملة: »أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة«. رأيتم عظمة كلام الرسول، وامتدحتم بولس وأُعجبتم به وهو ينظِّم حياتكم بحكمة كبيرة. هو إنسان روحيٌّ حقٌّا وبالتالي أهل لكلِّ إعجاب. لا بأس. ولكن اسمعوا الآن ماذا يطلب منكم. وإذ أراد أن يرسم واجباتكم واصلَ التشبيهَ عينه: »أيُّها الرجال، أحبُّوا نساءكم كما المسيح أحبَّ الكنيسة«. ترون مقدار الخضوع، فانظروا مقدار المحبَّة. تريدون من المرأة أن تطيعكم كما الكنيسة تطيع المسيح، فاهتمُّوا كلَّ الاهتمام بها كما المسيح اهتمَّ بالكنيسة. إن وجب أن تضحُّوا بحياتكم من أجلها، أن تمزَّقوا تمزيقًا، أن تحتملوا كلَّ أنواع العذابات، فلا تتأخَّروا. وحين تفعلون كلَّ هذا، لا تكونون عملتم شيئًا شبيهًا بما عمله المسيح. أنتم تعملونه لشخص سبق واتَّحد بكم، أمّا المسيح ففعله لنفس تُبعده عنها وتَكرهه. ولكنَّه اهتمَّ واهتمَّ فتغلَّب على كرهها وبغضهما واحتقارها ونزواتها. وإذ جعلها عند قدميه، لم يستعمل التهديد ولا الكلام القاسي ولا التخويف ولا ما يشبه هذا. فتصرَّفوا بمثل هذه الطريقة تجاه نسائكم(78).

الرسالة إلى فيلبِّي بعظاتها الخمس عشرة تدافع عن سرِّ التجسُّد ردٌّا على الهراطقة، من مرقيون إلى بولس الشميشاطيِّ، إلى أريوس والأريوسيّين (العظة السابعة، 2: 5-11). شدَّد الواعظ على اللاهوت الكامل في المسيح وعلى الناسوت الكامل، الذي يتضمَّن النفس والجسد (ردٌّا على أبّولينار الذي اعتبر أنَّ اللاهوت حلَّ محلَّ النفس في يسوع). قال: »لا نمزج ولا نقسم. إله واحد. مسيح واحد ابن الله. حين أقول واحدًا، أتحدَّث عن الوحدة لا عن الذوبان. فالطبيعة الإلهيَّة لم تسقط بحيث صارت الطبيعةَ البشريَّة. فالطبيعتان متَّحدتان«.

ونُقلت العظات (12 عظة) حول الرسالة إلى كولوسِّي. تحدَّثت الأولى عن الصداقة. وتوقَّفت الثانية (1: 15-18) عند شخص يسوع المسيح. وشرحت الرابعة لماذا لم يأتِ المسيح إلى العالم من قبل. والخامسة بيَّنت كيف أنَّ العقل البشريَّ لا يقدر أن يفهم الأسرار وكلَّ ما يتجاوز الطبيعة. في السادسة مزَّق يسوع ودمَّر بموته الصكَّ الموضوع على البشريَّة. وعرضت السابعة التدبير والولادة الجديدة اللذين تمَّا في المعموديَّة...

وعرف السريان العظات حول الأولى إلى تسالونيكي (11 عظة)، والعظات حول الرسالة إلى تيطس (6 عظات). هل نقل السريان مثلاً العظات إلى العبرانيّين؟ إلى الآن لم تكشف المخطوطات شيئًا من العظات الأربع والثلاثين التي تلاها الذهبيُّ الفم في القسطنطينيَّة ونُشرت بعد موته بيد الأب قسطنطين أحد كهنة أنطاكية انطلاقًا ممّا أخذ عن طريق الاختذال. ولكن ما يلفت النظر هو عدد النصوص التي نُقلت إلى السريانيَّة وضاعت في اليونانيَّة. نذكر بعضها وإن لم تتعلَّق مباشرة بالرسائل البولسيَّة: تجارب يسوع والتجسُّد، أسبوع الآلام، مت 21: 28 والرحمة، عيد العنصرة، دعوة متّى، الخاطئة... كلُّ هذا يدلُّ على مكانة الذهبيِّ الفم في الكنيسة السريانيَّة(79).

لن نتوقَّف عند الآباء الكبادوكيِّين الذين كان أثرهم بالغًا في العالم السريانيِّ بحيث نُقلت آثارهم باكرًا وفي أكثر من ترجمة(80). إلاَّ أنَّ هؤلاء الآباء لم يتركوا لنا تفسيرًا للرسائل البولسيَّة. يبدو أنَّ أوريجان لم يُترجَم إلى السريانيَّة، وما بقي من أثناز لا يتعلَّق بالرسائل البولسيَّة. وكذا نقول عن أوغريس البنطيّ. أمّا كيرلُّس فترك لنا التفاسير الكتابيَّة حول الأسفار الخمسة وإشعيا ومتّى ولوقا ويوحنّا. ونشير إلى أنَّ تفسير لوقا جاء كاملاً ونُشر مع أكثر من ترجمة(81). أمّا الرسائل البولسيَّة التي نشرها بطريرك الإسكندريَّة هذا، فبقي منها مقاطع هنا وهناك. نعرف من السلسلات الكتابيَّة(82) أنَّ كيرلُّس شرح الرسائل البولسيَّة الكبرى، أي رو، 1 و2 كو، عب وبقيت مقاطع لا بأس بها(83).

ونورد مقطعًا من عظات يوحنّا الذهبيِّ الفم كما نقرأها في السريانيَّة لا كما في اليونانيَّة. فنعرف كيف تطوَّر الفكر اليونانيّ حين وصل إلى العالم السريانيّ.

فلماذا يُولد من عذراء؟ ولماذا يَحفظ بتوليَّتها؟

لأنَّها لمَّا كانت عذراء منذ القدم بشَّرها الملاك، ولكنَّ حوّاء منذ أن أُضلَّت ولدت كلمة علَّة الموت. أمّا مريم فعندما بُشرت ولدت الكلمة التي تدعونا إلى الحياة الأبديَّة. كلمة حواسّ علَّمت بالشجرة التي بها طُرد آدم من الفردوس، أمّا الكلمة التي ولدتها العذراء فعلَّمت بالصليب الذي بواسطته عاد اللصُّ الممثَّل لآدم، إلى الفردوس. فاليهود والوثنيّون لم يؤمنوا (وكذلك أصحاب البدع) أنَّه الله وُلد بدون ألم ولا زرع، ولهذا خرج اليوم من الجسد المتألِّم وحفظ الجسد بدون ألم لكي يظهر أنَّه لمّا وُلد من العذراء لم يثلم بتوليَّتها. هكذا وُلد بدون زرع وبقي جوهر القدّيسة كما هو. هكذا وُلد بشكل يليق بالله، ردٌّا على أولئك الذين صنعوا لهم تماثيل شبيهة بالبشر ليعبدوا آلهة حجريَّة تحقيرًا لخالقهم، فظهر لهم الله على شكل بشر ليزيل ما صنعوه باطلاً ويعودوا إلى عبادته، ويؤمن كلُّ من ابتعد عنه من اليهود والوثنيّين والهراطقة، ويعطي الرجاء للذين لا رجاء لهم والفرصة لمن فاتته، الذي له المجد والكرامة مع أبيه وروحه القدُّوس الآن وكلَّ أوان وإلى أبد الآبدين(84).

جاءت عظات الذهبيِّ الفم طويلة. أمّا التي نقلنا نهايتها فهي قصيرة جدٌّا، ونحن لم نجد ما يقابلها في النصوص اليونانيَّة. فنحن لسنا أمام ترجمة حرفيَّة ولا أمام ترجمة مختصرة. بل انطلق الكاتب الذي نجهل اسمه وقدَّم عظة استقى موادَّها من يوحنّا ودوَّنها بأسلوبه لتصلح بشكل عظة في الزمن الليتورجيّ. أمّا هذه فجُعلت »لتجسُّد ربِّنا يسوع المسيح ووالدة الإله العذراء القدّيسة«(85). وإليك هذا المقطع حول قيامة الربّ.

فالقيامة من بين الأموات كانت ضرورة حتميَّة لخلاصنا ورجاء كلِّ واحد فينا. وهكذا كانت قيامة مخلِّصنا من بين الأموات، لذلك يجب أن تُعلَن أمام جميع مَن تحت السماء.

لقد قام من بين الأموات، وصار بقيامته الطريق الساعي للحياة لنا كلِّها. فهو آدم الثاني. فكما بآدم متنا كلُّنا، هكذا بالمسيح نحيا كلُّنا (1 كو 15: 22). وهذا ما يقوله مار بولس: »وكما لبسنا مثال الترابيّ، كذلك سنلبس أيضًا صورة السماويّ (1 كو 15: 49). إذًا، لا يطلبْ أحدٌ الحيَّ بين الأموات (لو 24: 5)، لا يطلبْ أحدٌ الحيَّ بين القبور. فأين هو إذًا؟

إنَّه في السماء وبالمجد اللائق به. إنَّه في العروش العالية. ولكي تكون هذه الأمور حقيقة راسخة، لنَعُدْ بالذاكرة إلى ما قاله المسيح: »لا بدَّ له أن يُسلم بأيدي الخطأة ويتألَّم ويموت ويقوم في اليوم الثالث« (مت 20: 18) (مختارات، ص 209-210).

ويتواصل كلام الواعظ فيبيِّن أوَّلاً أنَّ الجسد الذي مات هو ذاته الذي قام. كان جسدًا حيوانيٌّا فصار جسدًا روحانيٌّا.

وهذا برهان واضح أنَّه ليس إنسانًا آخر، بل هو ذاته. فالذي رأوه يعاني سكرات الموت على الخشبة ثمَّ وُضع في القبر، هو الذي يكلِّمهم الآن مُثبتًا أنَّه غلب الموت واقتلعه من الإنسان. ولقد أمرهم أن يجسُّوا يديه ورجليه ومكان المسامير، فيسلِّموا بشكل أكيد أنَّ الذي تألَّم هو الذي قام. فلا يشكُّ أحدٌ بالقيامة، ولا يتزعزع رجاء أحد لكلِّ الساكنين تحت السماء. ولنسمع ما يقوله الكتاب الإلهيّ: »يُزرَع جسد حيوانيّ ويقوم جسدٌ روحانيّ« (1 كو 15: 44).

فكما أنَّ الجسد الحيوانيَّ يخضع للأهواء الحيوانيَّة (الجسديَّة)، كذلك الجسد الروحانيُّ يخضع لإرادة الروح القدس. فالجسد يتسلَّح ضدَّ الروح والروح ضدَّ الجسد (غل 5: 17). ولكن بعد القيامة تتوقَّف المعركة، إذ تَبطل أسلحةُ الجسد وتتوقَّف أهواؤه نهائيٌّا وتتحوَّل إلى سلام ومصالحة وانصياع لمتطلِّبات الروح. إنَّ الناموس الذي في الأعضاء (رو 7: 23) والناموس الذي يقف الآن ضدَّ ناموس عقلنا ويسبينا إلى الخطيئة (آ25) يُلغَى إذ يصبح الجسد روحانيٌّا. فالذي يسقط في الأرض يلبس عدم الفساد (1 كو 15: 54) ويحتقر الموت (مختارات، ص 211-212).



الخاتمة

تلك كانت مسيرتنا مع بولس الرسول في التراث السريانيِّ. منذ القديم تُرجمت نصوصه كما نصوص الأناجيل وشُرحت كما ذكرت في المقالات العددية. قدَّمنا نصوصًا وُجدت في تضاعيف الكتب التي دُوِّنت قبل البسيطة، ممَّا يدلُّ على أنَّ السريان لم ينتظروا هذه الترجمة الرسميَّة ليقرأوا الرسائل البولسيَّة. وشُرح مار بولس لدى الآباء السريان، كما نُقلت نصوصه إلى عالم اليونان فصارت إرثًا سريانيٌّا شأنها شأن ما كتبه السريان أنفسهم. فما من كنيسة تستطيع أن تنعزل عن نفسها، والتفاعل كان ظاهرًا في القديم وما زال ظاهرًا إلى الآن. ولكنَّنا نتحسِّر أنَّ الأدب السريانيَّ لم يُنشر بعد. فما زال »محفوظًا« في المخطوطات كما في سجن. ونحن ننتظر من الشرق السريانيِّ أن يعرِّف الغرب إلى غناه، بل يعرِّف الشرق الذي يعيش فوق كنز ثمين جدٌّا ولكنَّه يترك غناه لآخرين ويبقى طالبًا المياه يوم انطلق ماء الحياة من أرضه.

 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:41 PM   رقم المشاركة : ( 155799 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة





بولس الذي دعا نفسه أكثر من مرة الرسول


قال في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »من بولس الذي شاء الله أن يدعوه ليكون رسول المسيح يسوع« (1: 1). وفي الثانية إلى كورنتوس: »من بولس رسول المسيح يسوع بمشيئة الله« (1: 1). هذا الرسول ترك لنا بنفسه ثلاث عشرة رسالة أو أربع عشرة. دوّنها بيده، بمن ساعده، بيد تلاميذه حتى بعد موته. وبينها، كما تقول الكنيسة الانطاكية، الرسالة إلى العبرانيين. ما اكتفى بولس بأن ينشر الانجيل بفمه، بل راح يبشر بقلمه، وقال فيما قال: »الويل لي إن لم أبشّر«. فالبشارة جزء من حياته.

وهكذا قرأنا الرسائل الثلاث عشرة فقط، وربّما نعود إلى الرسالة إلى العبرانيين في إطار الكلام عن يسوع الكاهن الأعظم الذي ما استحمى أن يدعونا إخوته وأخواته، الذي قدّم نفسه ذبيحة منذ مجيئه إلى العالم.

وقرأنا أيضاً ما يتعلّق بالتقليد الذي بيّن حضور بولس خارج »الكنيسة الرسمية«. ففي »الكنيسة الخفية« التي أرادت أن يكون لها كتبها، شأنها شأن كنيسة المسيح، وصلت إلينا كتب أوردنا نصوصها فيما مضى، وها نحن نقدّم هنا دراستين منها: أعمال بولس، رؤيا بولس. وخرجنا من إطار الآثار المنحولة لندخل في العالم الغنوصي، تلك الحركة التي كان لها الأثر الكبير في مجتمعات عديدة، والتي حسبت أنها نالت »وحيًا« تستطيع أن توصله إلى الناس بعد أن قسمتهم فئتين: البسطاء والكمّال. أمّا ما وُجد في في نجع حمّادي، في صعيد مصر، فهو للكمّال، لهذا جُعل في لغة قبطيّة لئلا »يُحرق« كما أحرقت كتب عديدة اعتُبرت خطراً على المؤمنين، وحاملةً التعاليم الضالة.

وانتشرت رسائل بولس في الشرق والغرب، بعد فترة من »الرفض« لدى فئات خافت أن تتكلّم عن الثالوث، عن التجسّد والحديث عن يسوع الذي صار انساناً حقيقياً، وصُلب ومات وقام. رحنا إلى العالم اليوناني مع أوريجان بشكل خاص، ولكننا لم ننسَ الآباء الذين دافعوا عن الإيمان الجديد في وجه العالم الوثني: يوستين، ارستيد، تيوفيل الانطاكي وغيرهم. وتلخّص بالنسبة إلينا العالم اللاتيني في شخص القديس أوغسطين، الذي استند إلى قبريانوس، أسقف قرطاجة. وحين هاجم الدوناتيين الذين ارتبطوا بدوناتوس الرافض الرحمة لجاحدي الإيمان خلال الاضطهاد، والبيلاجيّين، تلاميذ بيلاج الذي شدّد على إرادة الانسان تجاه النعمة، أورد هذا المعلّم الكبير، مقاطعَ من أقوالهم وكتبهم وردّ عليها مستنداً إلى بولس الرسول. وما اكتفى بأن يأخذ أقواله، بل اقتدى بحياته، واعتبر أن اهتداءه حين قيل له »خذ واقرأ« شابه اهتداء ذاك الماضي في الطريق إلى دمشق، والسامع كلام الربّ: لماذا تضطهدني. فالذي دعا أوغسطين هو أكثر من فكرة فلسفيّة تعلّمها مع أفلاطون أو المانويين، إنه شخص حي نستطيع أن نقيم معه حواراً. وسوف يتواصل هذا الحوار حتى سنة 430، سنة وفاة معلّم افريقيا الكبير. والذي دعا بولس، ليس هو ذاك الميت الذي سرق تلاميذُه جثمانه من القبر لكي يضلوا الناس ويحدثوهم عن قيامته. إنه حي يعمل في الذين دعاهم بحيث لا يهابون الآلام والموت.

وأخيراً فتحنا باباً على العالم السرياني. منذ القرن الثاني على الأقلّ، عُرفت رسائل بولس كما عُرفت الأناجيل في ما يُسمّى »السريانيّة العتيقة«. منذ القرن الثالث والرابع، وردت النصوص البولسية كما الشروح وخصوصاً مع افرام السرياني، ومع تيودور المصيصيّ الذي نُقلت أثاره سريعاً إلى السريانيّة. وكما ألّف السريان التفاسير في لغتهم، كذلك نقلوا العديد من الآثار اليونانية مثل تفاسير كيرلس الاسكندراني ويوحنا الذهبي الفم وديودور الطرسوسي وغيرهم.

هل استنفدنا الدراسات عن بولس؟ نحن بدأنا. ولا نقول: فتحنا باباً، بل: فتحنا نافذة نتمنّى أن تكون نقطة انطلاق فنعرف الغنى الذي تركه آباء الكنيسة، ولا سيما الكنيسة السريانية، حين قرأوا بولس الرسول وغيره من الأسفار المقدسة.

 
قديم 28 - 03 - 2024, 02:44 PM   رقم المشاركة : ( 155800 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,218,321

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة







بولس
فسَّر القدِّيس أوغسطين هذا الاسم في اللاتينيَّة: الصغير paulus، هو قال عن نفسه: »أنا أصغر الرسل« (1 كو 15: 9). وأضاف: »لا أستحقُّ أن أكون رسولاً«. ولادته لم تكن ولادة طبيعيَّة بمعنى أنَّه رافق يسوع على طرقات الجليل واليهوديَّة، ودعاه كما دعا سمعان وأخاه أندراوس، يعقوب وأخاه يوحنّا. لهذا دعا نفسه »السقط«، كما نقول عن ثمرة »سقطت« دون أن تنمو مثل سائر الثمار.

إنسان متواضع.
ولكنَّ الربَّ يرفع المتواضعين. قال: »بنعمة الله أنا ما أنا عليه الآن، ونعمته عليَّ ما كانت باطلة، بل إنِّي جاهدت أكثر من سائر الرسل كلِّهم، وما أنا الذي جاهدتُ، بل نعمة الله التي هي معي« (آ10). أجل، هذا »الصغير« هو كبير جدٌّا، وسيكون له أن يفتخر تجاه الذين يحسبون نفوسهم رسلاً وما هم برسل. وينهي كلامه: »من يفتخر فليفتخر بالربّ«.

بولس هو »عبد« المسيح. العبد والعابد أمرٌ واحد.
هو الذي يحبُّ »عابده« حتّى الجنون. هو الذي يلتصق بمن »عبدَه«، أي صَنَعه. كان لا شيء، صار ذاك العظيم. وهكذا ربط بولس حياته بحياة الربّ، فما عاد يفتخر إلاَّ بصليب المسيح. حيث غاب الكثيرون عن صليب يسوع، هناك أراد بولس أن يكون »مصلوبًا مع المسيح« محلَّ أحد اللصين اللذين كانا قرب يسوع. وفرح لأنَّه يحمل »في جسده سمات يسوع« (غل 6: 17).

هذا الشرف الكبير الذي ناله بولس، لأنَّه قبِلَ يومًا أن يقول للربِّ: »ماذا تريد أن أفعل؟« فأرسله إلى الكنيسة. إلى حنانيا الذي عمَّده، إلى بلاد العرب، حوران، شرقيِّ الأردنّ، إلى هذه الجماعات المسيحيَّة الأولى حيث عرف يسوع: ما عمله، ما علَّمه، ما عاشه وكيف انتهت حياته. دخل يسوع في هذا الرسول فاستطاع أن يقول: لستُ أنا الحيَّ بل المسيح هو الحيُّ فيَّ. لم تعُد حياته له. صارت للمسيح. بل صارت حياته حياة المسيح. فاستطاع أن يقول أكثر من مرَّة: اقتدوا بي، اقتدوا بي. فأنا أقتدي بالمسيح. وصوَّره لنا القدِّيس لوقا في أعمال الرسل صاعدًا إلى أورشليم على مثال معلِّمه، ولكنَّه لن يموت في أورشليم، لأنَّ الربَّ طلب منه أن يشهد له في الأمم، في قلب العالم الوثنيّ، في رومة: »لا بدَّ لك أن تحضر لدى القيصر« (أع 27: 24). ولن يموت على الصليب وهو الذي قال: صرت مصلوبًا للعالم، بل بقطع الرأس على طريق أوستيا، قرب روما.

كان بالإمكان أن يكون بولس فرِّيسيٌّا بين مئات بل آلاف الفرِّيسيّين. ولكنَّه ترك كلَّ شيء وراءه وانطلق ملبِّيًا الدعوة العلويَّة. كان بإمكانه أن يبقى لدى أبيه وأمِّه، وهو من لا يُذكَر له أخٌ ولا أخت. لماذا التعب؟ لماذا الانطلاق من مدينة إلى مدينة؟ لماذا التعرُّض للأخطار؟ إلى غير بولس يُقال هذا الكلام. أدركني المسيح فأردتُ أن أدركه، »فأشاركه في آلامه وأتشبَّه به في موته على رجاء قيامتي من بين الأموات« (فل 3: 10-11).

هذا الذي أحبّ الرب حتى العبادة، صار سفيره إلى الأصقاع البعيدة، من أورشليم إلى الليريكون، على حدود إيطاليا. ولكنه لن يصل إلى رومة كما أراد، بل مقيَّدًا من أجل المسيح. فالسفير هو سفير الرب في القيود، ومع أنه سجين السلطة الرومانية، فهو حرّ في حمل الكلمة، وهو لا يخاف من الموت. فالسفير يمثّل بلده، وبولس يمثّل يسوع. أتراه يريد أن يختلف عن سيّده وهو من افتخر بأن يكون عبده؟

فبولس هو رسول. الربُّ أرسله. وما انتظر أن يُرسَل من لدن البشر. قال إلى أهل غلاطية وإلى الذين: »أنا رسول، لا من الناس، ولا بدعوة من إنسان، بل بدعوة من يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات« (1: 1). وتذكَّر بولس ما رووا أمامه من كلام الربّ: »كما أرسلني الآب. كذلك أنا أرسلكم« (يو 20: 21). هو مُرسَل كما يسوع مرسل. يا للفخر، يا للشرف، يا للعظمة! وفي الوقت عينه، يا للمسؤوليَّة! وسوف يقول لأهل كورنتوس: »نحن سفراء المسيح«. السفير هو من ترسله بلاده لكي يمثِّلها، لكي يدافعه عن مصالحها. يسوع هو سفير الآب. وبولس هو سفير يسوع المسيح. يسوع أخبرنا عن الآب، وبولس يخبرنا عن الابن، يحمل الإنجيل بفمه، بقلبه، بكلِّ حياته.

ولكنَّ هذا الرسول يعرف ضعفه، وأنَّه يحمل الكنز الذي سُلِّم إليه في إناء من خزف، من فخّار. يمكن أن ينكسر هذا الإناء. ولكنَّ بولس لا يخاف. فالقوَّة هي من الله، لا منّا. المهمُّ يقول بولس أنَّنا »وكلاء أسرار الله«. هو الوكيل، لا الأصيل. الأصيل هو يسوع المسيح. أمّا الرسول فهو »الوكيل«، وما يُطلَب من الوكيل هو أن يكون »أمينًا«. فالأمانة هي صفة الرسول الأساسيَّة، لأنَّه لا يعظ بنفسه، بل يعظ »بيسوع المسيح ربٌّا« (2 كو 4: 5). ويواصل، »نحن خدَمٌ لكم من أجل المسيح«.

هذه بعض ملامح بولس الذي دعوناه عبد المسيح ورسوله. لو لم يكن كذلك، لكان ضاع اسمه بين الأسماء العديدة في العالم، ولكان غاب شخصه. أمّا حين قبل أن يكون كما دعاه الربّ، فهو حيٌّ اليوم مع المسيح الحيّ، وهو مبشِّر الآن مع المسيح المبشِّر. صار مسيحًا آخر. لهذا نفرح إن نسمع له لأنَّ صوته صوت المسيح وكلامه كلام المسيح. فيا ليتنا نأخذ معه ما أخذ من المسيح، ونتعلَّم معه ما تعلَّم من المسيح!

 
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 03:18 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024