منتدى الفرح المسيحىمنتدى الفرح المسيحى
  منتدى الفرح المسيحى
التسجيل التعليمـــات التقويم مشاركات اليوم البحث

اسبوع الالام
 أسبوع الآلام 

لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد آمين

ثوك تى تى جوم نيم بى أوؤو نيم بى إزمو نيم بى آما هى شا إينيه آمين


العودة  

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #155881  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:01 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة







محبَّة الله

اكتشف بولس محبَّة الله في قلب حياته، لا انطلاقًا من فهمٍ قرأه في العهد القديم، أو في الآداب اليونانيَّة التي عرفها كما يعرفها كلُّ جامعيّ في طرسوس، المدينة التي وُلد فيها. كان يضطهد »كنيسة« الله بلا رحمة، ويحاول تدميرها« (غل 1: 13). ومع ذلك يقول: الله أحبَّني. »بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي« (آ15). لو كنّا في إطار العهد الأوَّل، لقلنا: يعاملنا الله كما عاملناه. نسيناه فنسانا. ابتعدنا عنه فابتعد عنّا. هي صورة بشريَّة ناقصة، فيها يقوم الله بتربية أبنائه، فيعاقبهم ويحرمهم بانتظار أن يعود إليهم. »كيف أهجركم؟ كيف أتخلّى عنكم؟ كيف أعاملكم؟« (هو 11: 8) أمثل مدن عرفت الخراب والدمار؟ ويواصل الربُّ كلامه: »قلبي يضطرب في صدري، وكلُّ مراحمي تتَّقد«. الله أب بقلب أم يقول لأبنائه: »جذبتكم بحبال الرحمة وروابط المحبَّة، وكنتُ لكم كأبٍ يرفع طفلاً على ذراعه، ويحنو عليه ويطعمه« (آ4).

بمثل هذه العاطفة، عامل الربُّ بولس، أو شاول، »ذاك الذي كان مضطهدًا وشتّامًا« (1تم 1: 13). ما عاقبه، ما لاحقه وإن هو لاحق المؤمنين، لا في أورشليم فقط، بل في دمشق ولو أنَّه وصل إليها »بالغيرة الشديدة على تقاليد آبائي« (غل 1: 14). قال: »رحمني لأنّي كنت غير مؤمن، لا أعرف ما أفعل، ففاضت عليَّ نعمةُ ربِّنا وما فيها من إيمان ومحبَّة في المسيح يسوع« (1تم 1: 13-14).

وما اختبره بولس في حياته، اختبره المؤمنون في أفسس. كانوا غرباء، يقيمون خارج البيت ولا يحقُّ لهم أن يشاركوا سكّانه في حياتهم. كانوا ضيوفًا يُسمَح لهم بمرور عابر (رج أف 1: 19). أمّا الآن، فما عادوا غرباء ولا ضيوفًا. كانوا بعيدين، بل مُبعَدين لأنَّهم لم ينالوا الختان، تلك العلامة الخارجيَّة التي تدلُّ على انتماء إلى الله وإلى شعبه. ما عادوا بعيدين، صاروا قريبين بعد أن نالوا البشارة (آ17). لا عهد يجمعهم مع الله، لأنَّهم لم يعرفوه ذاك الإله الواحد والذي أرسل ابنه إلينا. فقال في يوحنّا: »هكذا أحبَّ الله العالم، فأرسل ابنه الوحيد، لئلاّ يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديَّة« (يو 3: 16).

وحدَّث بولس أهل أفسس عن حبِّ الله الكبير، عن رحمته الواسعة (أف 2: 4). من أين انتشلنا؟ قال: »كنّا نحن كلُّنا نعيش في شهوات الجسد، تابعين رغباته وأهواءه. ولذلك كنّا بطبيعتنا أبناء الغضب« (آ2-3). والآن صرنا أبناء الحياة »بعد أن كنّا أمواتًا بزلاّتنا« (آ4)، صرنا أبناء الخلاص (آ8)، ومرافقين يسوع في موته، في قيامته وفي صعوده وجلوسه عن يمين الآب (آ6).

كثرت الخطيئة، لا شكّ. ولكن فاضت النعمة (روم 5: 20). ويتحدَّث الرسول في الرسالة عينها عن »نعمة الله التي تفيض علينا، والعطيَّة الموهوبة بإنسان واحد هو يسوع المسيح« (آ15). لا شكَّ في أنَّ بولس أبرز الخطيئة في أبشع مظاهرها، ولاسيَّما لدى الوثنيّين، فقال: »غضبُ الله معلن من السماء على كفر الناس وشرِّهم« (روم 1: 18). ولكن ما كان ليقدِّم هذه الصورةَ البشعة، لو لم يكن مقيمًا في محبَّة الله. خرج الإنسان من هذا المستنقع بعد أن أمسكه الله بيده، فنظر إلى الوراء ليكتشف عمل الله من أجله، وليأخذ العبرة على ما قال الرسول: كيف ترجعون؟ فخبرة الشعب العبرانيّ حاضرة في ذهن بولس: تطلَّعوا دومًا إلى الوراء، إلى مصر وعبوديَّتها، إلى »قدور اللحم التي تشبعهم« (خر 16: 3)، إلى »القثاء والبطّيخ والكراث والبصل والثوم« (عد 1: 5). ما عاد يهمُّه المنّ، ذاك الطعام الذي منَّ به الله عليهم.

والمؤمنون في زمن بولس، يمكن أن يعودوا إلى شهواتهم، إلى ما في العالم »من شهوة الجسد، وشهوة العين، ومجد الحياة«، كما يقول يوحنّا في رسالته الأولى (2: 16). وهكذا ينسون محبَّة الله التي أفيضت في قلوبهم (روم 5: 5). تلك المحبَّة التي برهن الله عنها حين أرسل ابنه، حين »المسيح مات من أجلنا ونحن خاطئون« (آ8). فيا لعمق هذه المحبَّة التي لا تنظر إلى أعمال الإنسان، بل تعبِّر عن قلب الله. قال في النبيّ هوشع: »أنا إله، لا إنسان« (هو 11: 9). أنا هو القدُّوس، البعيد عن الإنسان، اللامحدود بالنسبة إلى المحدود. قال بفم أشعيا: »بمن تشبِّهونني وتعادلونني؟ بمن تمثِّلونني فنتشابه؟« (أش 46: 5). وتابع: »أنا الله ولا إله غيري، أنا الله ولا إله مثلي« (آ9). ولماذا يتميَّز الله عن كلِّ قوى الأرض والسماء؟ لأنَه محبَّة كما دعاه يوحنّا (1يو 4: 8، 14). وبما أنَّه المحبَّة، لا تفيض منه سوى المحبَّة. لهذا خَلق، لهذا خَلَّص، لهذا كوَّن في الإنسان قلبًا يحبُّ بحيث نصبح شبيهين به، على ما قال الرسول: »اقتدوا بالله كأبناء أحبّاء، وسيروا في المحبَّة سيرة المسيح الذي أحبَّنا وضحّى بنفسه من أجلنا« (أف 5: 1-2).
  #155882  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:04 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة







محبَّة الإخوة

بعد أن كلَّم الرسول مؤمني رومة عن هذه المحبَّة التي أفاضها الله في القلوب، دعاهم إلى محبَّة القريب: »لا يكن عليكم لأحد دين إلاَّ محبَّة بعضكم لبعض« (رو 13: 8). دين يُفرَض عليكم. ولا دين غير ذلك. والله يحاسبكم، لأنَّ الإنسان لا يقدِّر. فالجريح في الطريق، لم يساعده الكاهن ولا اللاويّ. وكان الضمير »مرتاحًا« لديهما أقلَّه في الخارج. وحده السامريّ اعتبر أنَّه دفع »الدين«. بل أقرض الله، على ما يقول سفر الأمثال: »من يتحنَّن على الفقير يُحسن إلى الربّ، والربُّ على إحسانه يكافئه« (أم 19: 17). ويشوع بن سيراخ: »من يقرض قريبه مالاً، يكون رؤوفًا به، ومن يمدُّه بالعون، يحفظ الوصايا. أقرض قريبك في وقت حاجته، وأوفه ما له عليك ولا تتأخَّر« (سي 29: 1-2).

وتابع الرسول كلامه: »من أحبَّ القريب أتمَّ العمل بالشريعة«. تضمَّنت الشريعة الوصايا العشر. وكانت الفرائض والأحكام التي تبعَتْها، فوردت في سفر الخروج. ثمَّ توسَّعت فصارت 613 وصيَّة في التقليد اليهوديّ، بحيث عجز المؤمن عن معرفتها، فكيف له بممارستها. لهذا سأل أحدهم يسوع: »ما هي أعظم وصيَّة في الشريعة؟« (مت 22: 36). هو لا يستطيع أن يعمل بها كلِّها. فيا ليت الربَّ يختار له واحدة، تعفيه من الباقي. وكان جواب يسوع: »أحِبَّ الربَّ إلهك بكلِّ قلبك وبكلِّ نفسك، وبكلِّ عقلك (آ37)... أحببْ قريبك كنفسك« (آ39). هل هذا يكفي؟ نعم. »فعلى هاتين الوصيَّتين تقوم الشريعة كلُّها وتعاليم الأنبياء« (آ40). وفي الخطِّ عينه، راح الرسول: »فالوصايا التي تقول: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ، وسواها من الوصايا تتلخَّص في هذه الوصيَّة: أحِبَّ قريبك مثلما تحبُّ نفسك. فمن أحَبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبَّة تمام العمل بالشريعة« (روم 13: 9-10).

هنا نفهم كلام الربِّ يسوع في العظة الأولى من العظات التي أوردها في إنجيله، عظة الجبل. أورد يسوع الوصايا: لا تقتل (مت 5: 21). لا تزنِ (آ27). ولكنَّه أضاف حالاً: أمّا أنا فأقول لكم (آ22، 28، 34، 39، 44). خمس مرَّات كرَّر العبارة عينها، وكأنَّه يُجمل الوصايا جميعًا. هي غير كافية. ما جاء يسوع ليُبطلها وكأنَّها ما كانت، فهي كلام الله. بل جاء ليكمِّلها. الوصيَّة تطلب منّا شيئًا محدَّدًا، إذا قرأناها بحسب الحرف. والشريعة يمكن أن تكون عائقًا في طريق الكمال، على ما حصل للكتبة والفرّيسيّين. لهذا قال يسوع لتلاميذه: »إن لم يزد برُّكم على برِّ الكتبة والفرّيسيّين، لن تدخلوا ملكوت السماوات« (آ20).

اعتبرَ البعضُ أنَّ ما قاله الرسول أمرٌ نظريّ. فالمحبَّة كلمة نجعلها في كلِّ خطاباتنا: محبَّة العالم. محبَّة الطبيعة، محبَّة الحيوان، محبَّة البشريَّة. ولكنَّها لا تؤثِّر فينا. نسمع الكلمات والكلمات، ونفرح بأقوالنا، وننسى ما يجب أن تكون عليه أفعالنا. لا. ليست هذه المحبَّة التي يطلبها بولس، بل هي عمليَّة جدٌّا. المحبَّة لا تسيء إلى القريب. فإن تعمَّدتُ الإساءة، لم أكن في المحبَّة. إن قتلتُه أو أبغضته أو سلبته، لا أكون في المحبَّة. هنا نلتقي مع القدّيس يوحنّا: »يحبُّ بعضنا بعضًا، ولا نكون مثل قايين، الذي كان من الشرِّير فقتل أخاه« (1يو 3: 11-12).

وراح القدّيس أوغسطين يقول: »أحببْ وافعل ما تشاء«. من زُرعت محبَّة الله في قلبه، لا يمكن إلاَّ أن يفعل الخير. يُصبح مثل شجرة التفّاح التي لا يمكن إلاَّ أن تنتج تفّاحًا، لا شوكًا وعوسجًا. تصبح المحبَّة فينا طبيعة ثانية. مثل الأمِّ تريزا ده كلكوتا. صارت المحبَّة فيها »شبه غزيرة« لا يمكن إلاَّ أن تمارسها، ساعة الجميع يتهرَّبون ويعتبرون عملها مضيعة للوقت. بعد ذلك، هل نعود إلى الشريعة، ونقيم الحسابات: ماذا عملنا؟ ماذا يجب علينا أن نعمل؟ نغفر سبع مرَّات أم عشر مرّات. نتصرَّف إلى درجة لا تتعدّى ما يفعله الخطأة أو الوثنيّون. ونعتبر بعض المرّات أنَّنا عملنا الكثير. في نظر الإنسان، لا شكّ، لا في نظر الله. غفر بطرس سبع مرّات. هذا ما لا يعمله أحد، فقال له الربّ: تغفر »سبعين مرَّة سبع مرّات« (مت 18: 22). أحبَّ المؤمنون من يحبّونهم (لو 6: 32). مساكين! الخطأة يفعلون مثلهم. فأين هي الشهادة التي يؤدُّونها؟ وأحسن المسيحيّون في زمن لوقا إلى الذين يحسنون عليهم، على مثل المثل المعروف: أعطيك فتعطيني. أُحسن إليه بتلك الكميَّة من المال التي بها أحسنَ إليَّ. فأنا أعامله كما عاملني: رفض أن يعطيني، وأنا أرفض. امتنع عن زيارتي وأنا أمتنع.

في هذا الإطار حدَّد الرسول عددًا من السمات التي تميِّز المحبَّة. تكون صادقة (رو 12: 7). تبتعد عن الكذب والرياء. إن قالت فعلت، وإلاّ شابه المؤمنُ الكتبة والفرّيسيّين الذين يقولون ولا يعملون (مت 23: 3). وتكون متبادلة، كمحبَّة الأخ لأخيه، والأخت لأختها. إذا كان الآب السماويّ أبانا جميعًا، فنحن إخوة. معًا نطلب الخبز اليوميّ. معًا نغفر بعضنا لبعض، ولا نعتبر أنَّ ما عملناه بطولة خارقة. ويبقى المثال أمامنا يسوع المسيح الذي غفر لنا من أعلى صليبه، بدءًا بالذين حكموا عليه ظلمًا وقتلوه.

والمحبَّة هي خدمة. قال الرسول: »أخدموا بعضكم بعضًا بالمحبَّة« (غل 5: 13). أترى صرنا عبيدًا ننقاد للغير؟ أما كفى الذين كانوا عبيدًا في الحضارة الرومانيَّة، ما عانوه في حالتهم المذلَّة، لكي يعودوا عبيدًا؟ كلاّ. بل إنَّ مثل هذه الخدمة تجعلهم يعيشون ذروة الحرِّيَّة. أمّا الحرِّيَّة التي يخاف منها الرسول، فهي التي تعني الفلتان على مستوى الرغبات، فهي التي تكون »حجَّة لإرضاء شهوات الجسد«. وكيف يكون مثل هذا الفلتان؟ »تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا« (آ15) حتّى الإفناء. إذا كانت الشريعة تفيد في هذه الحالة، فهي تبقى ناقصة. وهي »كلُّها تكتمل في وصيَّة واحدة، أحبب قريبك مثلما تحبُّ نفسك« (آ14).

هنا تكون أمام المؤمن طريقان: السلوك بحسب الروح، أو السلوك بحسب الشهوات البشريَّة، هذه تقاوم الروح، وتجعل الناس عبيدًا لأعمال تقع على مستوى اللحم والدم، والضعف البشريّ. هذه الأعمال هي الزنى، الدعارة، العداوة، الخصام (آ19-20)، كلُّها تعني ابتعاد المحبَّة وانغلاق على الذات في أنانيَّة تجعل الإنسان عبدًا لشهواته. أمّا طريق الروح، فأوَّل ثمر لها المحبَّة، التي تصبح شجرة كبيرة تعطي ثمار الفرح والسلام والصبر واللطف والوداعة (آ22-23). وينهي الرسول كلامه هنا: »لا نتكبَّر، لا نتحدّى، لا يحسد بعضنا بعضًا« (آ26).
  #155883  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:05 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة







محبَّتكم لجميع الإخوة

تحدَّث بولس عن إيمان الجماعة، واعتبر أنَّ هذا الإيمان يرتبط بالمحبَّة (أف 1: 15). فالإيمان الذي يجعلنا نرى ما لا يُرى، يساعدنا على التلاقي مع الذين حولنا، بطريقة تدفعنا إلى أن نرفع آيات الشكر إلى الله (آ16). وقدَّم لنا الرسول برنامجًا كاملاً في إطار الجسد الذي نؤلِّفه. قال: »كما أنَّ لنا أعضاء كثيرة في جسد واحد، ولكلِّ عضوٍ منها عمله الخاصّ به، هكذا نحن في كثرتنا، جسدٌ واحد في المسيح. ولكنَّنا أعضاء بعضنا لبعض« (رو 2: 4-5). هناك تفاعل داخل الجسد الواحد، بحيث لا يستطيع الواحد أن يستغني عن الآخر. لا تستغني العين عن اليد، والأذن عن الرجل. كلُّ عضو له مهمَّته في الجسد، وعمله من أجل خير الجماعة كلِّها، لا من أجل خير العضو وحده. وهكذا »تهتمُّ الأعضاء كلُّها بعضها ببعض. فإذا تألَّم عضو، تألَّمت معه جميع الأعضاء. وإذا أُكرم عضو، فرحَتْ معه سائر الأعضاء« (1كور 12: 25-26).

في مثل هذه الحالة، كيف يمكن أن تكون المحبَّة غائبة؟ فالحياة التي تمرُّ في عضو تصل إلى سائر الأعضاء. والروح الذي ينعش الواحد منّا، يصل إلى الكنيسة كلِّها. ولكن ما لا نجده في جسد الإنسان، تلك الصورة التي استقاها الرسول من عالم الفلاسفة اليونان، ولاسيَّما الرواقيّين، نجده في الكنيسة أي جسد المسيح. فالأعضاء في الجسد تسير بحسب الغريزة، مثل آلة دقيقة الصنع، حيث كلُّ غرض يأخذ مكانه. أمّا على مستوى الكنيسة، أو الرعيَّة، أو الدير، أو المدرسة، أو أيَّة جماعة، فكلُّ فرد حرٌّ في تصرُّفه، فيكون »الشقاق« (آ25)، وتحلُّ الأنانيَّة محلَّ التفكير بالغير والتضحية من أجل الإخوة. إذا كان الله بذل نفسه عنّا، فكيف لا نبذل نحن نفوسنا من أجل إخوتنا؟ »فما فعلنا إلاَّ ما كان يجب علينا« (لو 17: 10).

كيف يمكن أن نعيش هذه المحبَّة مع الإخوة؟ بما أنَّ لكلِّ أخ موهبة خاصَّة به، يُطلَب منه أن يُنمي هذه الموهبة لكي تكون خدمته بلا عيب. كما يُفرَض عليه أن يكتشف الموهبة التي عند أخيه. وإذ يضع كلُّ واحد المحبَّة التي وُهبت له في خدمة الجميع، يكون عائشًا المحبَّة. فالوزنة التي وُهبَت لي، لم تكن يومًا لكي أخفيها في الأرض (مت 25: 26). عندئذٍ أكون »ذلك الخادم الشرّير، الكسلان«. وإذ أعرف ما عندي وما به أقدر أن أكون حاضرًا في الجماعة، وأعرف ما عند أخي من موهبة، أدخل في سرِّ الله وفي قلب الكنيسة حيث »كلُّ واحد ينال موهبة يتجلّى فيها الروح للخير العام« (1كور 12: 7).

ويفصِّل بولس المواهب. لي موهبة التعليم، أعلِّم. لي موهبة الوعظ أعظُ. لي موهبة الرئاسة، أكون رئيسًا. هل الكلُّ يريد أن يكون رئيسًا؟ وعلى من يترأَّسون؟ إذا قوبلت الرئاسة بالعين، فأيُّ جسد يكون جسدنا إن كان كلُّه عينًا؟ ولم يكن فيه أذن ولا فم ولا يد ولا رجل؟ ونحسب بعض المرّات أنَّ الأعضاء التي نحسبها مهمَّة، هي الأكثر شرفًا لدى الله. هذا خطأ كبير. وفي أيِّ حال، مفهوم الإنجيل غير مفهوم العالم. في الإنجيل، الأوَّل يكون الآخر، كالراعي الذي يسير وراء خرافه ليجمعهم ويدخلهم إلى الحظيرة. والكبير يكون الأصغر. والمترئِّس يكون الخادم. ذاك ما قال يسوع لتلاميذه بعد أن غسل لهم أرجلهم: »أنتم تدعونني معلِّمًا وربٌّا، وحسنًا تفعلون لأنّي هكذا أنا. وإذا كنتُ أنا الربُّ والمعلِّم غسلت أرجلكم، فيجب عليكم أنتم أيضًا أن يغسل بعضكم أرجل بعض« (يو 13: 13-14).

حين يعيَّن كاهن في الرعيَّة، يُدعى »خادم الرعيَّة«، لا رئيس الرعيَّة. ومثاله يسوع الذي جاء ليَخدم لا ليخدمه الناس. جاء ليبذل حياته عن الكثيرين، عن البشريَّة كلِّها (مر10: 45). وهو الذي قال: »ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه« (يو 15: 13). وهو الذي دعا نفسه الراعي الصالح. قال: »أضحّي بحياتي في سبيل خرافي« (يو 10: 15). من أحبَّ خرافه، لا يعاملها كالأجير الذي يعمل قدر أجرته. ولا هو يهرب حين يرى الذئب آتيًا، والخطر مقبلاً، أهكذا يتبع المسيح حاملاً صليبه، سائرًا في خطاه (مر 8: 35)؟

والأسقف يوقِّع: الحقير، أي الصغير. وهو يستعدُّ لأن يقتبل المذلَّة من أجل المؤمنين الموكَّلين إلى رعايته. إن حسب نفسه أنَّه الكبير، سمع كلام العذراء مريم، تلك الخادمة الوضيعة، تُنشد: »حطَّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين« (لو 1: 52). ويمكن أن يسمع صوت الربِّ يقول له إن هو خان الأمانة: »أذكر من أين سقطت« (رؤ 2: 5). أمّا في التراث السريانيّ فهو ـ¢ـ‌ـ£ـ‌ـگ الطاهر والنقيّ على مثال يسوع المسيح الذي تنشده الليتورجيّا: ـ¢ـ‌ـ£ـ‌ـگ ـکـ©ـ•ـ‌ـ«ـگ الطاهر والقدّوس الساكن في ديار النور. وهو في النهاية، الطيِّب الذكر، بسبب ما تركه بعد موته من أعمال تمجِّد الله، على مثال ما قال الرسول لتيموتاوس أسقف أفسس: »تكون خادمًا صالحًا للمسيح يسوع، متغذِّيًا بكلام الإيمان والتعليم الصحيح« (1تم 4: 6). ثمَّ »تحفظ الوصيَّة منزَّهًا عن العيب واللوم إلى يوم ظهور ربِّنا« (1تم 6: 14).

وأسقف رومة، قداسة البابا، يُدعى: خادم خدّام الله. عبد عبيد الله. هذا يعني أنَّه قريب جدٌّا من الربّ. وفي المعنى الأصليّ: هو صُنعتُه. هو اختاره من بطن أمِّه ودعاه إلى خدمته، كما دعا بولس الرسول نفسه (غل 1:15).

فكلُّ رسول في الجماعة، حديث العهد، ينتبه إلى نفسه، »لئلاّ تسيطر عليه الكبرياء فيلقى العقاب الذي لقيَه إبليس« (1تم 3: 6). بولس دعا نفسه »عبد يسوع المسيح« (رو 1: 1). هو الرسول والمرسل، وعمله عمل السفير الذي يكون أمينًا للسفارة التي أرسل فيها. وهو الوكيل الذي يحاول أن يعطي إخوته الطعام في حينه. ذاك هو معنى ـ،ـ•ـ’ـھـ¢ـگ يُقال في الأسقف الداخل إلى الكنيسة، ولاسيَّما في زيارة قانونيَّة للرعيَّة. عرف »أن يحسن تدبير بيته، وبالتالي تدبير الكنيسة« (1تم 3: 5). ويُقال أيضًا في المجلس الذي يوجِّه مسيرة الرهبانيَّة. كلُّ وحد منهم

هو أب »مدبِّر«. ويُعطى الألقاب، ويحافظ عليها حتّى بعد نهاية خدمته. فالمدبِّر يكون في موضع القيادة. فيكون مثل القائد في الجيش الرومانيّ. يسير في المقدِّمة حيث الخطر. لا في المؤخِّرة حيث يموت الجميع ليحموا حياته. وهو الذي يسوس الجماعة بحكمة آتية من عند الله. هكذا تظهر محبَّته لإخوته الذين يعملون كلُّ واحد في ديره، في رعيَّته. بهذه الطريقة يستطيع أن يقول إنَّه يعمل في قلب التدبير الخلاصيّ.

هنا تبرز شخصيَّة بولس الرسول. أتى إلى تسالونيكيّ. هدَّده الخطر. أجبر على ترك المدينة، ولكنَّه أرسل إلى الجماعة هناك »تيموتاوس أخانا، والعامل مع الله في بشارة المسيح ليشجِّعكم ويقوّيكم« (1تس 3: 1). هكذا يعيش تيموتاوس المحبَّة الأخويَّة، وهكذا يدلُّ الرسول أنَّه يحمل همَّ الكنائس.

قال: »ولمّا فرغ صبرنا«. ثمَّ قال في آ5: »ولهذا أرسلت، حين فرغ صبري، من يستخبر عن إيمانكم«. وتحدَّث في 2كور 11: 28 عن همِّ الكنائس، فقال: »فمن يضعف وأنا لا أضعفُ معه؟ ومن يقع في الخطيئة وأنا لا أحترق من الحزن عليه؟« (آ29). محبَّة الرسول بولس صارت مثالاً لكلِّ واحد منّا. كم تعذَّب من أجل الرسالة. قال: »عانيتُ الكدَّ والتعب والسهر الدائم والجوع والعطش والصوم الكثير والبرد والعري« (آ27).

ونذكر هنا مثلين من تقاليدنا. مات القدّيس شربل ليلة الميلاد، سنة 1898. وفي الليلة عينها مات البطريرك يوحنّا الحاجّ. كيف تصرَّف الرهبان في ذلك الوضع؟ لا شكَّ في أنَّ شربل الذي كان اسمه يوسف من قرية بقاعكفرا، لا يستحقُّ كلَّ هذا الاهتمام، وهو الذي عاش شبه مجهول في محبسة على الجبل. هو اقتدى بيسوع الذي عاش في الناصرة، يعمل بيديه ويحرق قلبه بصلاة على مذبح الربّ. والقدّيس نعمة الله، أستاذ اللاهوت للرهبان، ومن تلاميذه القدّيس شربل، طلب منه أخوه أن يأتي إلى المحبسة مثله. فقد كانوا يعتبرون أنَّ المحبسة قمَّة القداسة في الدير. رفض القدّيس نعمة الله. ما أعطيَ موهبة الانزواء في المحبسة كما سوف يفعل القديس شربل، بل أعطي مهمَّة التعليم، فقام بها في اجتهاد. ويا ليته ترك لنا بعض ما علَّمه. ولكنَّ ما كتبه ما كان »بحبر على ورق« (2يو 12)، بل في القلوب والضمائر والأفكار (رج رو 2: 15).
  #155884  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:07 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة







إن لم تكن فيَّ المحبَّة

في قلب المواهب التي منحها الله للمؤمنين في كنيسته، من صُنع معجزات ومواهب الشفاء وحسن الإدارة والتكلُّم باللغات (1كور 2: 28)، أنشد القدّيس بولس المحبَّة. واعتبر أنَّ كلَّ ما في الكنيسة لا يأخذ كامل معناه إلاّ إذا أنعشته المحبَّة. وجاء كلامه متدرِّجًا مع عبارة تكرَّرت ثلاث مرّات: »ولا محبَّة عندي« (1كور 13: 1، 2، 3). جاء المتكلِّمون بالألسنة. فقال لهم: »لو تكلَّمت بلغات الناس والملائكة، ولا محبَّة عندي، فما أنا إلاّ نحاس يطنّ وصنج يرن« (آ1). أستطيع أن أنطق بألسنة، ربَّما تبجُّحًا واستكبارًا على الآخرين. فإن لم يكن من يفسِّر، لا أتميَّز عن النحاس والصنوج التي لا نفْسَ لها. وجاءه أصحاب العلم والمعرفة، وهو القائل أنَّ العلم ينفخ، فأجابهم: »ولو وهبني الله النبوءة، وكنتُ عارفًا كلَّ سرٍّ وكلَّ علم، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولا محبَّة عندي، فما أنا بشيء« (آ2). حسبوا نفوسهم شيئًا، فإذا هم لا شيء. إلى هؤلاء لا يهتمُّ بولس. بل الله نفسه يتنكَّر لأعمالهم على مثال ما قال أشعيا في أولئك الذين يجيئون إلى الربّ بالتقدمات والذبائح (أش 1: 13) على متسوى اللسان، لا على مستوى القلب. فالربُّ لا يرضى (آ11)، بل هو لا يطيق (آ13) مثل هذه العواطف الكاذبة، ويحجب وجهه (آ15) لئلاّ يرى.

وجاءت فئة ثالثة، أصحاب المعونة والإسعاف. قال: »ولو فرَّقتُ جميع أموالي على الجائعين وسلَّمت جسدي ليحرق، ولا محبَّة عندي، فما ينفعني شيء« (آ3). يا ضياع التعب والتضحية. لا فائدة. فما يعطي الحياة معناها والأعمال مرماها، هو المحبَّة.

وما اكتفى الرسول بأن يُطلق هذا المبدأ الذي لا يقبل بشواذً، بل قدَّم بالتفصيل كيف يعيش المؤمنون المحبَّة. هناك أمور سلبيَّة نتحاشاها. لهذا جاءت الوصيَّة مع النافية. خمس مرّات: لا تسيء التصرُّف. لا تطلب منفعتها. لا تحتدّ. لا تظنُّ السوء. أو: لا تحتفظ بالحقّ (آ5). ثمَّ في آ6: »المحبَّة لا تفرح بالظلم«. هي لا تعذر الإخوة. لا تغطّي الخطايا، فتحسبُ الشرَّ خيرًا والخير شرٌّا، النور ظلمة والظلمة نورًا، الحلو مرٌّا والمرُّ حلوًا (أش 5: 20).

والأمور الإيجابيَّة تنطلق من محبَّة الله التي لا تذكر هنا، فتصل إلى القريب ذاك الذي نلتقي به كلَّ يوم: الأخ وأخوه. الأمّ والابنة. الرجل وابنه. وفي الرعيَّة، وفي الدير. نتحاشى ما يجب أن نتحاشاه، ونقوم بالأعمال التي تدلُّ على محبَّتنا في خطِّ ما نعرف من الإنجيل.

»المحبَّة تصبر وترفق« فالربُّ يُدعى »كثير الأناة، البطيء عن الغضب، وكثير المراحم واللطف« (خر 34: 6). ومثله يكون كلّ ابنٍ من أبنائه. يكون المحبَّ والرفيق وحامل الصدق. »المحبَّة تصفح«. أما هكذا كان كلام الربّ: »إن غفرتم للناس زلاّتهم، غفر لكم أبوكم السماويّ. وإن لم تغفروا لا يغفر لكم أبوكم« (مت 6: 14-15). فالمحبُّ لا يترك الحقد في قلبه. وإن هو غضب »لا تغرب الشمس على غضبه« (أف 4: 26). »والمحبَّة تصدِّق«. فالمؤمن لا يغشّ ولا يكذب. على ما قال الرب« فليكن كلامكم نعم أو لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرّير« (مت 5: 37). تلك هي روحانيَّة الرسول: »هل أدبِّر أموري تدبيرًا بشريٌّا، فأقول نعم نعم ولا لا في الوقت ذاته؟ ويشهد الله أنَّ كلامنا لكم ما كان نعم ولا، لأنَّ يسوع المسيح ابن الله الذي بشَّرْنا به بينكم... ما كان نعم ولا، بل نعم كلُّه« (2كور 1: 17-19).

»والمحبَّة ترجو كلَّ شيء«. هي تعيش في قلب الرجاء، لأنَّها تنتظر في الآخرة ما تعيشه منذ الآن. كما ترجو أن لا تتغلَّب الخطيئة في القلوب. فالمؤمن يتذكَّر مَثَل التينة العقيمة، الذي أعطاه يسوع بعد ثلاث سنوات من البشارة. جاء صاحب الكرم يريد أن يقلعها، فأجابه الكرَّام: »اتركها، يا سيِّدي، هذه السنة أيضًا، حتّى أقلب التربة وأسمِّدها. فإما تُثمر في السنة المقبلة، وإمّا تقلعها« (لو 13: 8-9). كما الربُّ لا ييأس من شعبه بالرغم من خطاياه، كما ينتظر ابنه الضالّ الذي هو لا بدَّ راجع عليه، هكذا تنتظر الكنيسة وتعامل أبناءها بالرفق.

في آ4، تحدَّث الرسول عن المحبَّة التي »تطيل روحها«. تنتظر وتنتظر. في آ8، هي تصبر وتبقى ثابتة لا تتزعزع. هكذا كان الأب المحبّ ينتظر ابنه الذي مضى إلى البعيد. ما إن وصل حتّى استقبله أطيب استقبال.

في هذا الإطار عينه، نستطيع أن نقرأ بعض الأعمال التي يقوم بها المؤمن فيعبِّر عن محبَّته في ظروف الحياة: »افرحوا مع الفرحين وابكوا مع الباكين. عيشوا في الاتِّفاق. لا تطلبوا التعالي، بل اقبلوا أن تكونوا متواضعين. ولا تحسبوا أنفسكم حكماء« (رو 12: 15-16)، وكأنَّ الآخرين جهّال يحتاجون لأن تعلِّموهم. ويمكن أن تتواصل اللائحة: »ساعدوا الإخوة القدّيسين في حاجاتهم. وداوموا على ضيافة الغرباء« (آ13).

وتنتهي اللائحة: »لا تجازوا أحدًا شرٌّا بشرّ، واجتهدوا أن تعملوا الخير أمام جميع الناس. ساعدوا جميع الناس إن أمكن، على قدر طاقتكم. لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحبّاء...« (آ17-19). هكذا تحبُّون بعضكم بعضًا كما الإخوة يحبّون. هكذا يكون الإكرام المتبادل، »بحيث تفضلِّون بعضكم على بعض« (آ10).

الخاتمة

الكلام عن المحبَّة عند القدّيس بولس حديث طويل. هي تنطلق من قلب الله فتفيض في قلوب المؤمنين. بل الله يعمل معنا نحن أحبّاءه، لأجل خيرنا في كلِّ شيء (رو 8: 28). محبَّة حملها المسيح في شخصه، فضحّى بذاته من أجلنا. محبَّة نعيشها يومًا بعد يوم مع الإخوة الأقربين. وهذا ما يفترض الخروج من الذات، بحيث »نطلب أن لا نرضي أنفسنا« (روم 15: 1)، بل »يعمل كلُّ واحد منّا ما يرضي أخاه لخير البنيان المشترك« (آ1-2). هكذا عمل يسوع (آ3) وهكذا نعمل نحن طالبين »الاتِّفاق في الرأي« (آ5). والمحبَّة تكون عمليَّة، فلا تكتفي بالشعارات والأقوال الفارغة. بل تفرض على كلِّ واحد منّا أن يبدِّل سلوكه اليوميّ فينتقل من البغض والحقد إلى التسامح والغفران. من حبِّ الذات حتّى حبّ الله والقريب، كما قال القدّيس أوغسطين: من حب الذات حتى بغض الله إلى حبِّ الله حتّى بغض الذات. عندئذٍ نفهم كلام الربّ. حين نخسر نفوسنا نخلِّصها. وكيف نخسرها؟ حين نحبُّ حتّى التضحية بنفوسنا، لأنَّ الموت في النهاية حياة، وحين نحاول أن نربح نفوسنا، ونربح معها العالم، تكون الخسارة الكبرى، خسارة الحياة الأبديَّة. يبقى السؤال: ونحن ماذا نختار؟
  #155885  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:08 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




رجاؤنا لا يخيب

سنة 51، كتب القدّيس بولس رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، فكان أوَّل من ذكر الفضائل الإلهيَّة الثلاث: الرجاء والإيمان والمحبَّة. قال: »ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح من نشاط في الإيمان وجهاد في المحبَّة وثبات في الرجاء« (1 تس 1: 3). إذا كان ما يعبِّر عن النشاط المسيحيّ في الرسالة، هو الإيمان، وما يعبِّر عن الجهاد والاضطهاد لأجل اسم الربِّ يسوع، هو المحبَّة، فعلامة الرجاء هي الثبات، هي مواصلة المسيرة الإيمانيَّة حتّى المنتهى. وفي سنة 57، أرسل إلى أهل كورنتوس كلامًا حول المواهب في الكنيسة، ودلَّهم »على أفضل الطرق« (1 كو 12: 31). وبيَّن لهم ماذا يبقى من حياة الإنسان: »الإيمان والرجاء والمحبَّة« (1 كو 13: 13). لا شكَّ في أنَّ المحبَّة هي التي تدوم، فلا تتوقَّف في هذه الدنيا بل تصل بالمؤمن إلى الآخرة، إلى السماء، لأنَّ الله محبَّة، كما قال يوحنّا في رسالته الأولى (1 يو 4: 8).

أمّا نحن فكلامنا يدور حول الرجاء مع هذا العنوان: »رجاؤنا لا يخيب« (رو 5: 5). وذلك في محطّات ثلاث: الرجاء وارتباطه بالإيمان. الرجاء الذي يتضمَّن مواعيد الله. الرجاء الذي يستند إلى المحبَّة.

1- ما هو الرجاء

يُقال الرجاء هو ضدُّ اليأس. واليائس هو من قطع الأمل، وكأنَّ الطريق صارت مسدودة أمامه فلا يعرف كيف يتوجَّه. وفي بعض المعاني، يرتبط الرجاء بارتقاب شيء لا يثق الإنسان بأنَّه يستطيع الحصول عليه. صاحب الرجاء هو من يرتقب الآتي، من ينتظره وكأنَّه يراه بعينيه. فالمترقِّب لا يعرف ما سوف يحصل له، لهذا يكون قلقًا وإن طال القلق، وصل بالإنسان إلى القنوط وما عاد ينظر إلى الحياة، بل ربَّما إلى الموت. من أجل هذا جاء كلام بولس الرسول متواترًا حول الرجاء، سواء برسائل كتبها بيده أو بيد كاتب بقربه، أو برسائل كتبها تلاميذه، بحيث إنَّ الموصوف »رجاء« (خµخ»د€خ¹د‚) في اليونانيَّة يرد إحدى وأربعين مرَّة. والفعل (خµخ»د€خ¹خ¶د‰) تسع عشرة مرَّة.

ففي رسالة رومة مثلاً، التي تُبرز وضع العالم قبل مجيء المسيح، العالم الوثنيّ الغارقٌ في خطاياه، الراضي عن الذين يقترفون أبشع الشرور وأشنعها. والعالم اليهوديّ المستند إلى »برِّه« على مستوى الشريعة، لا على مستوى الحياة، ينتظره غضب الله كما ينتظر الوثنيّين. لا مجال للهرب »لأنَّ غضب الله معلَنٌ من السماء على كفر البشر وشرِّهم« (رو 1: 18). ماذا يبقى للمؤمن؟ الرجاء. والوجه المشعُّ في هذا المجال هو إبراهيم. قال فيه الرسول: »كان راجيًا حيث لا رجاء« (4: 18). نفهم: حيث لا يكون رجاء بشريّ. بل النصُّ يقول: »ضدّ الرجاء البشريّ«. فلو كان إبراهيم منطقيٌّا مع ذاته، لما كان انطلق في طريق لا يعرف أين تصل به. ولكنَّ الرجاء جعله يرى ما لا يُرى. يرى يد الله تمسك بيده وتقوده عبر المخاطر. فكأنّي به يقول: »لو سرتُ في وادي الظلمات لا أخاف شرٌّا، لأنَّك أنت معي« (مز 23: 4).

وكيف تظهر فضيلة الرجاء؟ في الصبر. لا نعجِّل لكي نرى ما يمنحنا الله من مواهب، بل ننتظر النهاية. ننتظر أن نكون عبَرْنا النفق المظلم، لأنَّ النور يطلُّ في النهاية. مضى إبراهيم. إلى أين؟ الربُّ سوف يريه المكان في الوقت المناسب. ولولا ذلك لما سار هذا المؤمن آلاف الكيلومترات دون أن يتراخى. ووصل إلى أرض كنعان. يمكنه أن يرتاح. ولكنَّه غريب في هذه الأرض، ولن يكون له سوى موضع قبر لامرأته سارة بانتظار أن يُدفَن هو فيه. وأين الأولاد والربُّ وعده بنسل كبير؟ وسوف يقول للربِّ في أحد حواراته: »يا ربّ، ما نفع ما تعطيني وأنا أموت عقيمًا« (تك 15: 2). ثمَّ قال: »ما رزقتَني نسلا« (آ3). غريبٌ يرثُني. لا، قال الربُّ: »من يخرج من صلبك هو الذي يرثك« (آ4). وأراه الربُّ نجوم السماء. ما الذي يؤكِّد ذلك لإبراهيم؟

كلامُ الربِّ يؤكِّد له ذلك. لأنَّ أساس الرجاء هو الإيمان. »آمن إبراهيم بالله فحُسب له إيمانه برٌّا« (روم 4: 3؛ رج تك 15: 6). فمن يؤمن يعرف أن يصبر، أن ينتظر، ولو مرَّ انتظاره في قلب المحنة. فهذه المحنة، يقول لنا الرسول، »تلد الرجاء« (رو 5: 5). ويربط بولس مرَّة أخرى، في الرسالة إلى رومة، بين الصبر والرجاء، مع لمسة الله الحاضرة كما لمسة الأمِّ لولدها: نحن نتعلَّم »كيف نحصل على الرجاء بما في هذه الكتب من الصبر والعزاء« (رو 15: 4). ومن يعطيني هذه النعمة؟ الله ذاته. وهي نعمة تعلِّمنا العيش »في اتِّفاق الرأي« (آ5). ويتمنّى الرسول لكنيسة رومة ومؤمنيها: »فليغمركم إله الرجاء بالفرح والسلام والإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بقدرة الروح القدس« (آ15).

دور كبير يلعبه المؤمنون في هذا العالم، الذي انتظرته جماعةُ تسالونيكي مسهَّلاً بعد أن انتقلوا من الوثنيَّة إلى المسيح، ولكن ما اختبروه كان عكس ذلك. قال لهم الرسول: »عانيتُم كثيرًا« (1 تس 1: 6). غير أنَّ هذا لا يمنعهم من قبول »كلام الله بفرح.« أصاب أهل تسالونيكي في »عالمهم« ما أصاب إخوتهم في اليهوديَّة من اضطهاد (1 تس 2: 14ي). ولكن ما شجَّعهم كان كلام الله الذي عمل فيهم. فعلَّمهم »الثبات« ودعاهم إلى عدم التراجع لئلاّ يشابهوا العبرانيّين في البرِّيَّة. أمام أوَّل صعوبة، طلبوا أن يعودوا إلى مصر، ولو عبيدًا، فهناك الخيرات الكثيرة. أمّا في البرِّيَّة، فلا ماء ولا طعام سوى هذا المنّ الذي عافت منه نفوسهم. سوى الحليب ومشتقّاته التي هي طعام البدو. وكان بإمكان أهل تسالونيكي أن يتهرَّبوا من تعليم الرسول، بحيث يعيشون في راحة. ولكن هل جاء المسيح على الأرض لكي يلقي سلامًا، هدوءً، راحة، طمأنينة؟ كلاّ. بل »جاء يُلقي على الأرض نارًا وهو ينتظر من هذه النار أن تشتعل« (لو 12: 49).

لهذا، دعا بولس مؤمني رومة أن يكونوا »فرحين في الرجاء« (رو 12: 12). فبدون رجاء لا مكان لسرور ولا لفرح. وإذا كان الله يطلب ممَّن يعطي بعض ماله أن يعطيَه بفرح (2 كو 9: 7: المعطي الفرحان)، فماذا لا يطلب ممَّن يعطي حياته؟ ذاك كان موقف الرسل الذين نالوا الاضطهاد والجلد. أخبرنا لوقا في سفر الأعمال: »فخرج الرسل من المجلس فرحين، لأنَّ الله وجدهم أهلاً لقبول الإهانة من أجل اسم يسوع« (أع 5: 41). فهل خافوا؟ كلاّ. هل تراجعوا، توقَّفوا؟ كلاّ. بل هم عادوا »يعلِّمون كلَّ يوم في الهيكل وفي البيوت، ويبشِّرون بأنَّ يسوع هو المسيح« (آ42).

لولا الرجاء الذي يعمر في داخلكم، لما كانوا ثبتوا في الرسالة. هنا نسمع بولس يحدِّثنا عن القيامة التي ينتظر، ويدعو الجماعة إلى الانتظار. فإذا كان لا رجاء »لماذا نتعرَّض نحن للخطر كلَّ حين؟« (1 كو 15: 30). ويتحدَّث عن نفسه: »أنا أذوق الموت كلَّ يوم« (آ31). وأخبرنا كيف هُدِّد بأن يصارع الوحوش. وأنهى كلامه: »إذا كان الأموات لا يقومون، فلنقل مع القائلين: تعالوا نأكل ونشرب، لأنَّنا غدًا نموت« (آ32). حين يغيب الرجاء، ينغلق الإنسان على الأبديَّة ويحصر نفسه في هذا العالم يعبُّ فيه من الملذّات كلَّ ما يستطيع. ولكن بولس هو ابن الرجاء، فيعلن هو (أو: تلاميذه) في بداية الرسالة إلى تيموتاوس: »من بولس رسول المسيح يسوع بأمر الله مخلِّصنا، والمسيح يسوع رجائنا« (1 تم 1: 1).

أجل، إذا كان رجاؤنا في هذا العالم فقط، فنحن أشقى الناس جميعًا (1 كو 15: 19). حدَّثنا المؤمنين عن القيامة، »وما من قيامة«، كما يقول أولئك الذين ابتعدوا عن التقوى. »تبشيرنا باطل، إيمانكم باطل، بل نكون شهود زور على الله« (آ14). مثل هذا القول كفرٌ وتجديف. وكأنَّ بولس ندم لأنَّه أورده حين استخلص نتائج عدم قيامة يسوع المسيح. ولكنَّه انتفض فقال: »لكنَّ الحقيقة هي أنَّ المسيح قام« (آ20). وهذا يعني أنَّ أساس الرجاء حاضر هنا، وما يقوله »الرافضون« يقع عليهم في النهاية، وحين يستيقظون يكون فات الأوان. في هذا المناخ، نقرأ بداية الرسالة إلى تيطس: »من بولس عبد الله... على رجاء الحياة الأبديَّة التي وعد بها الله الصادقُ منذ الأزل« (تي 1: 1-2). أجل، الله وعد ونحن ننتظر تحقيق مواعيده. وماذا ننتظر؟ »اليوم المبارك الذي نرجوه، يومَ ظهور مجد إلهنا العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح« (تي 2: 13). وماذا ننتظر؟ »أن نصير ورثة بحسب رجاء الحياة الأبديَّة« (تي 3: 7).



2- مواعيد الله

وهكذا فتحَنا الله على مواعيده. فإذا كان الرجاء هو الانتظار الأكيد للسعادة الآتية، كما يقول القدّيس توما في الخلاصة اللاهوتيَّة، فنحن لا نفهم الرجاء في الإطار اللاهوتيّ إلاَّ في العودة إلى مواعيد الله التي تحتلُّ هنا مكانة مميَّزة. كان العالم الوثنيّ ينظر إلى الزمن على أنَّه دائرة تعود فيها السنون إلى حيث انطلقت. أمّا الكتاب المقدَّس فينظر إلى الزمن على أنَّه خطٌّ مرتَّب في التاريخ، وهو تاريخ يتجلّى فيه الله على أنَّه سيِّد المستقبل وسيِّد البشريَّة كلِّها. واسم »يهوه« نفسه كما كُشف لموسى (خر 3: 14) يؤكِّد الزمن الآتي: الله فعل وهو يفعل. أنا هو اليوم وغدًا كما كنتُ في الماضي.

هنا المعنى الأصليّ للوعد: يتكلَّم الله وما يقوله يُجريه، وما يعدُ به إنسانًا من الناس يُنيله ما وعد به. تلك كانت خبرة إبراهيم وسارة. قال الربّ: »سأرجع إليك في هذا الوقت من السنة المقبلة ويكون لسارة امرأتك ابن« (تك 18: 10). أمرٌ لا يصدَّق: إبراهيم كبير السنّ، وسارة خصوصًا »امتنع أن تكون لها عادة كما للنساء« (آ11). هذا غير معقول! لهذا ضحكت سارة. أمّا الربُّ فوعد ووفى: »فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته، في الوقت الذي تكلَّم الله عنه« (تك 21: 2). وكان الكتاب قال: »وافتقد الربُّ سارة كما قال، وفعل كما وعد« (آ1). ففي الوعد التزام. أترى الله لا يفي بوعوده؟ بل هو الإله الثابت، الأمين.

وهكذا يكون الوعد إحدى الكلمات المفاتيح في لغة الحبّ. فحين يَعد الله، فهو يُلزم في الوقت عينه قدرته وأمانته، ويؤكِّد أنَّ المستقبل في يده، كما يؤكِّد صدق كلامه. هذا ما يحرِّك عندنا تعلُّق القلب وسخاء الإيمان. وبالطريقة التي بها الله يعد وباليقين الذي يملك بأنَّه لا يخيِّب الآمال، فهو يكشف أنَّه العظيم والعظيم وحده. قال سفر العدد: »ليس الله بإنسان فيكذب. ولا كبني البشر فيندم. أتراه يقول ولا يفعل، أو يتكلَّم ولا يقيِّم كلامه؟« (23: 19). فحين يعد الله، فهذا يعني أنَّه سبق وأعطى. وخصوصًا أعطى إيمانًا يعرف الانتظار ويتأكَّد أنَّ الله هو الأمين الذي لا يمكن أن ينكر نفسه (2 تم 2: 13).

وبولس حين اهتمَّ بأن يبيِّن أنَّ الإيمان هو أساس الإيمان المسيحيّ، دُفع لكي يُبيِّن أن جوهر الكتب المقدَّسة ومخطَّط الله يقوم في وعدٍ وعدَ به إبراهيم وأتمَّه في يسوع المسيح.

هنا نقرأ الرسالة إلى غلاطية. فالغلاطيّون الذين بشَّرهم الرسول وعلَّمهم الحرِّيَّة في المسيح، عادوا إلى العالم اليهوديّ، يمارسون شعائره. فجاء كلام بولس قاسيًا: »أيُّها الغلاطيّون الأغبياء« (غل 3: 1). بل هم تحت اللعنة لأنَّهم »يتَّكلون على العمل بأحكام الشريعة« (غل 3: 10). ويطرح السؤال: لمن أعطيَت المواعيد؟ لأهل الإيمان أم لأهل الشريعة؟ والجواب واضح: »أهل الإيمان هم أبناء إبراهيم الحقيقيّون« (آ6). وبما أنَّ إبراهيم برَّره الله لإيمانه، فنحن أيضًا »ننال بالإيمان الروح الموعود به« (آ14).

ويواصل الرسول برهانه للغلاطيّين، فيأخذ »مثلاً بشريٌّا«: من يقدر أن يبدِّل وصيَّة إنسان أعلنها قبل موته؟ والجواب لا أحد. وبالأحرى الله: وعد إبراهيم، فمَن يقدر أن يلغي وعد الله أو يبدِّله. لا أحد. حتّى ولا الشريعة التي »لا تقدر أن تنقض عهدًا أثبته الله، فتجعل الوعدَ باطلاً« (آ17).

وبماذا وعدنا الله؟ بالميراث. نحن أبناء مع الابن، وورثة معه على ما قال الرسول في الرسالة إلى رومة: »وهذا الروح يشهد مع أرواحنا أنَّنا أبناء الله. وما دُمنا أبناء الله، فنحن ورثة: ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث، نشاركه في آلامه لنشاركه أيضًا في مجده« (رو 8: 16-17).

فما الذي يحرمنا من هذا الميراث؟ إذا وُجد هذا الحرمان، فهذا يعني أنَّ وعد الله ليس بوعد (غل 3: 18). معاذ الله من هذا الكلام! وتأتي المقابلة بين هاجر وسارة من جهة، وبين إسحق وإسماعيل من جهة ثانية. إذا نحن وُلدنا »بحسب الجسد« (أو: اللحم والدم)، فنحن عبيد، لا أحرار. وبالتالي لسنا أبناء. أمّا الذي وُلد بحسب الروح، فنحن »أبناء الحرَّة« وقد وُلدنا »بفضل وعد الله« (غل 4: 23). ويعلن الرسول بعد أن يورد النصَّ الإشعيائيّ: »فأنتم، يا إخوتي، أبناء الوعد مثل إسحق« (آ28).

مواعيد الله نتعرَّف إليها منذ العهد القديم. وعد بأرض وبنسل. وتواصلت مواعيدُه مع موسى وخصوصًا مع داود بالنسبة إلى الملكيَّة التي امتدَّت مع سليمان بحيث إنَّ الشعب »يثبت في مكانه فلا يتزعزع من بعد« (2 صم 7: 10). ووعد الربُّ بالخلاص في النهاية مع ذاك »الأب الأبديّ ورئيس السلام« الذي »سلطانه يزداد قوَّة، ومملكته في سلام دائم... غيرة الربِّ تعمل ذلك من الآن وإلى الأبد« (إش 9: 6).

مواعيد أُعطيت. فأوجزها القدّيس بطرس في عظته الأولى يوم العنصرة: »الوعدُ لكم ولأولادكم ولجميع البعيدين، بقدر ما يدعو منهم الربُّ إلهنا« (أع 2: 39). ذاك ما جعله لوقا، تلميذ بولس، في أوَّل خطبة توجز مشروع الكنيسة في انطلاقتها. وجاء الرسول يُفهمنا أنَّ الجميع يدخلون في هذا المخطَّط الإلهيّ. قال للوثنيّين: »في الماضي، كنتم بعيدين عن رعيَّة إسرائيل، غرباء عن عهود الله ووعده، لا رجاء لكم ولا إله في هذا العالم. أمّا الآن...« (أف 2: 12-13). الذين لم يعرفوا الرجاء عرفوا الرجاء بيسوع المسيح الذي تجسَّد في »ملء الزمن« (غل 4: 4)، الذين لم يعرفوا وعد الله بأن »يجمع في المسيح كلَّ شيء في السماوات وفي الأرض« (أف 1: 10)، عرفوا الآن أنَّ هذا الوعد وصل إليهم وإلى أبنائهم، سواء كانوا بعيدين عن أورشليم أو كانوا قريبين. فالجميع صاروا شركاء في ميراث الله، وأعضاء في جسد واحد. »ولهم نصيب في الوعد الذي وعده الله« (أف 3: 6).

وحين تفيض علينا النعمة في المسيح يسوع ونصير أغنياء في كلِّ شيء بحيث لا تعوزنا موهبة من المواهب (1 كو 1: 4-7)، لا يبقى لنا سوى أن ننتظر »ظهور ربِّنا يسوع المسيح... الذي يحفظنا ثابتين إلى النهاية« (آ7-8). أجل، القوَّة التي لا تأتي من البشر، بل من الله، تجعلنا نهتف مع الرسول: »إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟« (رو 8: 31). ذاك هو أساس رجائنا. والربُّ وهب لنا ما وهب. ويواصل الرسول: »الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت، كيف لا يهبُ لنا معه كلَّ شيء؟« (آ32). عندئذٍ »من يقدر أن يفصلنا عن المسيح؟« (آ35). فمعه ننتصر كلَّ الانتصار حتّى في قلب الشدائد (آ37).



3- الرجاء المرتبط بالمحبَّة

إذا كان الرجاء نظرة إلى المستقبل، فمن يؤكِّد لنا هذا المستقبل؟ وإلى ماذا أو إلى من نستند؟ أما يكون الرجاء سرابًا نتكمَّش به لأنَّ لا سبيل لنا إلى غيره؟ إذا كان الربُّ حوَّل سراب البرِّيَّة ماء، من أجل شعب البرِّيَّة، فهل يحوِّل برَكَته سرابًا بحيث يصبح الفردوس شوكًا وقطربًا؟ حاشا. فنحن نعلن مع الرسول: »رجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا« (رو 5: 6). ومتى فعل ذلك؟ أحين كنّا أبرارًا؟ كلاّ. بل حين كنّا »ضعفاء«، »خاطئين« أظهر الله محبَّته لنا »بأنَّ المسيح مات من أجلنا« (آ8).

رجاؤنا قويٌّ لأنَّه يستند إلى محبَّة الله، الذي أحبَّنا قبل أن نحبَّه. قال يوحنّا في رسالته الأولى: »نحن ما أحببنا الله (وسبقناه حين أظهرنا محبَّتنا له) بل هو الذي أحبَّنا، وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا« (4: 10). الله أحبَّنا قبل إنشاء العالم، اختارنا (قبل أن نعرف أن نختار) »لنكون عنده قدّيسين بلا لوم في المحبَّة« (أف 1: 4). هل يمكن أن يتخيَّل بشرٌ ما أعدَّه الله لأحبّائه؟ لا يمكن. ومع ذلك هو الحقيقة. فهتف الرسول: »ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر ما أعدَّه الله من أجل أحبّائه« (1 كو 2: 9). وأنتم أحبّاؤه حين تعملون بمشيئته. حين تتجاوبون معه، فتردُّون على الحبِّ بالحبِّ.

فماذا يفعل الله من أجل الذين يحبُّونه؟ يعدهم بالمجد الآتي، يقول لهم: »آلام هذه الدنيا لا توازي المجد الذي ينتظرنا« (رو 8: 18). بل يرينا أنَّ الخليقة كلَّها »تنتظر بفارغ الصبر« (آ19). ونحن ماذا نفعل؟ هل نشبه المؤمنين في زمن إشعيا، الذين قال النبيّ فيهم: »الثورُ يعرف مقتنيه، والحمار معلف صاحبه، أمّا بنو إسرائيل فلا يعرفون، شعبي لا يفهم شيئًا« (إش 1: 3).

نرفض الرجاء. نتعلَّق بما يُرى وننسى ما لا يُرى. مع أنَّ ما يُرى هو لزمان وما لا يُرى هو إلى الأبد. نرفض الاتِّكال على الله ونحسب أنَّنا نستطيع بمقدورنا أن نفعل. نرفض الباب الضيِّق والطريق الصاعدة. هكذا نكون لا نعرف ولا نفهم. وننسى خصوصًا ما الذي فعله الله ويفعله كلَّ يوم من أجلنا. هو مشروح محبَّة يغرز جذوره في حياة كلِّ واحد منّا، بل في التاريخ كلِّه. هو »سر« يريد أن يُدخلنا الله فيه. فهل نستعدُّ أن نرى؟ هل نستعدُّ أن نسمع؟ هذا يفترض الإيمان العامل بالمحبَّة.

قال الرسول: »ونحن نعلم أنَّ الله يعمل سويَّة مع الذين يحبُّونه لخيرهم في كلِّ شيء أولئك الذين دعاه حسب قصده. فالذي سبق فاختارهم، سبق فعيَّنهم ليكونوا على مثال صورة ابنه حتّى يكون الابنُ بكرًا لإخوة كثيرين. وهؤلاء الذين سبق فعيَّنهم، دعاهم أيضًا، والذين دعاهم برَّرهم أيضًا، والذين برَّرهم مجدَّهم أيضًا« (رو 8: 28-30).

»سبق«. يرد الفعل أكثر من مرَّة. الله هو السبّاق. كلُّ مبادرة هي منه، ولا يكون لنا سوى الجواب. وضع أمامنا السعادة والشقاء ونحن نختار. جعل الخير والشرّ أمام الإنسان، وقام بالخطوة الأولى فجعله في الجنَّة. فلماذا يسبقنا وهو لم يعرف شيئًا عنّا؟ لأنَّه جعل رجاءه فينا. كلام هائل. الله اتَّكل علينا. جعل ثقته فينا ولهذا خلقنا. فالمحبُّون وحدهم يعرفون أنَّ كلَّ شيء هو لخيرهم. دعاهم كما يدعو الأب أبناءه: أنتَ، اذهب إلى كرمي. إن أردت أن تتبعني، تمشي ورائي. والرسول يدعونا: »تشبَّهوا بالله كالأبناء الأحبّاء« (أف 5: 1).

ما نحن توجَّهنا إليه أوَّلاً، بل هو توجَّه. ما نحن دعوناه، بل هو دعانا، اختارنا على ما قال: »ما أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأرسلتكم« (يو 15: 16). والنعمة الكبرى بعد أن »تشوَّهت« صورة الله بفعل الخطيئة، هو أنَّه »عيَّننا«، »أعدَّنا« لكي نكون على صورة ابنه. تلك هي المحبَّة العظمى. لم يعد الابنُ الابنَ الوحيد، بل صرنا كلُّنا أبناءه، ويسوع المسيح صار أخًا لإخوة وأخوات عديدين.

وتتواصل السلسلة: من الدعوة، إلى التبرير، أي جعلنا أبرارًا قدّامه، خلَّصنا من جديد »كما من الماء والروح« لكي نعيش بحسب إرادته. أخذ منّا قلب الحجر وأحلَّ محلَّه قلبًا من لحم. وفي النهاية »مجَّدنا«. إلى هذا المستوى وصلت محبَّة الله لنا. نحن نعرف أنَّ المجد هو لله وحده. ولكن لمّا صرنا مع الابن دُعينا إلى المجد على مثال الابن. ويقول لنا المسيح: »تجلسون على اثني عشر كرسيٌّا وتدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر«. ويقول لنا الرسول: »أنتم ستدينون العالم« (1 كو 6: 2). ويواصل، ويا للعظمة، فيقول للكورنثيّين الذين لم يفترقوا عنّا في شيء: »أما تعرفون أنَّنا سندين الملائكة؟« (آ3).

تلك هي الدرجة التي رفعنا الله إليها. وكلُّ هذا محبَّة لنا. فإلى هذه المحبَّة يستند رجاؤنا، ونخشى بعد ذلك الفشل والخيبة، بل يخاف الكثير منّا، مع أنَّ الله قال: لا أتركك ولا أرخي بك الأيدي. وقال أيضًا: »الربُّ لا يتخلّى عن أتقيائه، بل إلى الأبد يحرسهم« (مز 23: 28). بل هو يشبِّه الله بأمِّ وأب. هذان يمكن أن يتخلَّيا عن أولادهما. هي خبرة قاسية على مستوى البشر، لا على مستوى الله. ونحاول أن نجعلها على مستوى الله، وكأنَّ الله إنسان من البشر! ولكنه يجتذبنا بحبال الرحمة وروابط المحبَّة ويهتمُّ بكلِّ واحد منّا كما الأمُّ تهتمُّ بابنها الوحيد. وهكذا نحسُّ مع الله أنَّنا موضوع اهتمامه. قد يقول المؤمن، كما قالت أورشليم، »تركني الربّ، نسيَني«. ما هذا الكلام الذي يجرح الله في الصميم، لأنَّه يرى أولاده يبتعدون عنه، يغيبون في اليأس، يفقدون كلَّ شيء حتّى الحياة. لهذا فهو يجيبنا بلسان النبيّ: »أتنسى المرأة رضيعها، ألا ترحم ثمرة بطنها (وهو كان في رحمها)؟« هذا مستحيل في عالمنا. ويواصل الربُّ كلامه: »لكن لو أنَّها نسيَتْ فأنا لا أنساك... وها أنا على كفِّي رسمتك« (إش 49: 14-16). فاسمُك، يا ابني، يا ابنتي، لا يزول، ما زال كفّي معي.

»الجبال تزول والتلال تتزعزع وأمّا رأفتي فلا تزول« (إش 54: 10). إلى هذا الإله يستند بولس في سجنه. »أنت تعرف أنَّ جميع الذين في آسية تخلُّوا عنّي« (2 تم 1: 15). أين يضع رجاءه؟ في الربّ. وهكذا يبقى ثابتًا حتّى النهاية كما يجعل نفسه مثالاً لتلميذه. قال: »الله ما أعطانا روح الخوف، بل روح القوَّة والمحبَّة والفطنة« (2 تم 1: 7). ويواصل كلامه إلى تلميذه الحبيب: »أمّا أنت فتبعت تعليمي وسيرتي ومقاصدي وإيماني وصبري ومحبَّتي وثباتي واحتمالي الاضطهاد والعذاب« (2 تم 3: 10-11).

وفي النهاية، يهتف بولس من سجنه في رومة، الذي كان قاسيًا جدٌّا، وسوف يقوده إلى الموت قتلاً بالسيف على طريق أوستيا، القريبة من رومة. فيقول »أمَّا أنا فذبيحة يراق دمها، وساعة رحيلي اقتربت. جاهدتُ الجهاد الحسن وأتممتُ شوطي وحافظتُ على الإيمان. والآنَ ينتظرني إكليلُ البرِّ الذي سيكافئني به الربُّ الديّان العادل في ذلك اليوم، لا وحدي، بل جميع الذين يشتاقون ظهوره« (2 تم 4: 6-8). انتظر الرسول، فانتظره »إكليل البر«. اشتاق إلى لقاء الربِّ فلبّى الربُّ اشتياقه وفتح له يديه كما الأمُّ تستقبل طفلها الآتي إليها. كان المسيح ذبيحة على الصليب، والرسول هو ذبيحة أيضًا يدفعه الرجاء. فلولا هذا الرجاء ما خطا الرسول خطوة، ولا هو انبطح إلى الأمام، ناسيًا ما وراءه، من أجل »الفوز بالجائزة التي هي دعوة الله« (فل 3: 14). والسرُّ الذي دفع بولس، قاله هو: »أنا عارفٌ على من اتَّكلت، وأنا واثق بأنَّه قادر على أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم« (2 تم 2: 12).



الخاتمة

مسيرة رائعة سرناها مع بولس الرسول. ترك العالمَ اليهوديّ، كما سبق إبراهيم وترك وراءه أرض أور وحاران. مضى إبراهيم وهو لا يعرف إلى أين يقوده الله. وكذلك بولس الذي عرف الشيء الوحيد بعد خبرة دمشق: »سوف أعرِّفه كم سوف يتألَّم من أجلي.« من هو أبو بولس ومن هي أمُّه؟ إخوته، أخواته؟ صار له الربُّ الأب والأمَّ والأخ والأخت والزوج والأولاد. جعل كلَّ رجائه في هذا الإله الذي استسلم له منذ النداء الأوَّل، نداء الصليب الذي يقود إلى القيامة. أتُرى خاب أمل بولس؟ كلاّ. بل لبث ثابتًا حتّى النهاية. وُعد بالإكليل ونال الإكليل. واكتشف بشكل خاصّ محبَّة الله له. فمع أنَّه كان مُضطهدًا ومجدِّفًا (1 تم 1: 13). نال الرحمة. محبَّة الله غمرته فاستند إلى هذه المحبَّة وانطلق في حياته وفي رسالته. وما ترك لنا من كتابات تدفعنا اليوم إلى الرجاء »فنتمسَّك بهذه الثقة (التي وُضعت فينا)، ونفتخر بالرجاء« (عب 3: 6).
  #155886  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:09 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




رجاؤنا لا يخيب

سنة 51 كتب القدّيس بولس رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، فكان أوَّل من ذكر الفضائل الإلهيَّة الثلاث: الرجاء والإيمان والمحبَّة. قال: »ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح من نشاط في الإيمان وجهاد في المحبَّة وثبات في الرجاء« (1 تس 1: 3). إذا كان ما يعبِّر عن النشاط المسيحيّ في الرسالة، هو الإيمان، وما يعبِّر عن الجهاد والاضطهاد لأجل اسم الربِّ يسوع، هو المحبَّة، فعلامة الرجاء هي الثبات، هي مواصلة المسيرة الإيمانيَّة حتّى المنتهى. وفي سنة 57، أرسل إلى أهل كورنتوس كلامًا حول المواهب في الكنيسة، ودلَّهم »على أفضل الطرق« (1 كو 12: 31). وبيَّن لهم ماذا يبقى من حياة الإنسان: »الإيمان والرجاء والمحبَّة« (1 كو 13: 13). لا شكَّ في أنَّ المحبَّة هي التي تدوم، فلا تتوقَّف في هذه الدنيا بل تصل بالمؤمن إلى الآخرة، إلى السماء، لأنَّ الله محبَّة، كما قال يوحنّا في رسالته الأولى (1 يو 4: 8).

أمّا نحن فكلامنا يدور حول الرجاء مع هذا العنوان: »رجاؤنا لا يخيب« (رو 5: 5). وذلك في محطّات ثلاث: الرجاء وارتباطه بالإيمان. الرجاء الذي يتضمَّن مواعيد الله. الرجاء الذي يستند إلى المحبَّة.

  #155887  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:12 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




ما هو الرجاء

يُقال الرجاء هو ضدُّ اليأس. واليائس هو من قطع الأمل، وكأنَّ الطريق صارت مسدودة أمامه فلا يعرف كيف يتوجَّه. وفي بعض المعاني، يرتبط الرجاء بارتقاب شيء لا يثق الإنسان بأنَّه يستطيع الحصول عليه. صاحب الرجاء هو من يرتقب الآتي، من ينتظره وكأنَّه يراه بعينيه. فالمترقِّب لا يعرف ما سوف يحصل له، لهذا يكون قلقًا وإن طال القلق، وصل بالإنسان إلى القنوط وما عاد ينظر إلى الحياة، بل ربَّما إلى الموت. من أجل هذا جاء كلام بولس الرسول متواترًا حول الرجاء، سواء برسائل كتبها بيده أو بيد كاتب بقربه، أو برسائل كتبها تلاميذه، بحيث إنَّ الموصوف »رجاء« (خµخ»د€خ¹د‚) في اليونانيَّة يرد إحدى وأربعين مرَّة. والفعل (خµخ»د€خ¹خ¶د‰) تسع عشرة مرَّة.

ففي رسالة رومة مثلاً، التي تُبرز وضع العالم قبل مجيء المسيح، العالم الوثنيّ الغارقٌ في خطاياه، الراضي عن الذين يقترفون أبشع الشرور وأشنعها. والعالم اليهوديّ المستند إلى »برِّه« على مستوى الشريعة، لا على مستوى الحياة، ينتظره غضب الله كما ينتظر الوثنيّين. لا مجال للهرب »لأنَّ غضب الله معلَنٌ من السماء على كفر البشر وشرِّهم« (رو 1: 18). ماذا يبقى للمؤمن؟ الرجاء. والوجه المشعُّ في هذا المجال هو إبراهيم. قال فيه الرسول: »كان راجيًا حيث لا رجاء« (4: 18). نفهم: حيث لا يكون رجاء بشريّ. بل النصُّ يقول: »ضدّ الرجاء البشريّ«. فلو كان إبراهيم منطقيٌّا مع ذاته، لما كان انطلق في طريق لا يعرف أين تصل به. ولكنَّ الرجاء جعله يرى ما لا يُرى. يرى يد الله تمسك بيده وتقوده عبر المخاطر. فكأنّي به يقول: »لو سرتُ في وادي الظلمات لا أخاف شرٌّا، لأنَّك أنت معي« (مز 23: 4).

وكيف تظهر فضيلة الرجاء؟ في الصبر. لا نعجِّل لكي نرى ما يمنحنا الله من مواهب، بل ننتظر النهاية. ننتظر أن نكون عبَرْنا النفق المظلم، لأنَّ النور يطلُّ في النهاية. مضى إبراهيم. إلى أين؟ الربُّ سوف يريه المكان في الوقت المناسب. ولولا ذلك لما سار هذا المؤمن آلاف الكيلومترات دون أن يتراخى. ووصل إلى أرض كنعان. يمكنه أن يرتاح. ولكنَّه غريب في هذه الأرض، ولن يكون له سوى موضع قبر لامرأته سارة بانتظار أن يُدفَن هو فيه. وأين الأولاد والربُّ وعده بنسل كبير؟ وسوف يقول للربِّ في أحد حواراته: »يا ربّ، ما نفع ما تعطيني وأنا أموت عقيمًا« (تك 15: 2). ثمَّ قال: »ما رزقتَني نسلا« (آ3). غريبٌ يرثُني. لا، قال الربُّ: »من يخرج من صلبك هو الذي يرثك« (آ4). وأراه الربُّ نجوم السماء. ما الذي يؤكِّد ذلك لإبراهيم؟

كلامُ الربِّ يؤكِّد له ذلك. لأنَّ أساس الرجاء هو الإيمان. »آمن إبراهيم بالله فحُسب له إيمانه برٌّا« (روم 4: 3؛ رج تك 15: 6). فمن يؤمن يعرف أن يصبر، أن ينتظر، ولو مرَّ انتظاره في قلب المحنة. فهذه المحنة، يقول لنا الرسول، »تلد الرجاء« (رو 5: 5). ويربط بولس مرَّة أخرى، في الرسالة إلى رومة، بين الصبر والرجاء، مع لمسة الله الحاضرة كما لمسة الأمِّ لولدها: نحن نتعلَّم »كيف نحصل على الرجاء بما في هذه الكتب من الصبر والعزاء« (رو 15: 4). ومن يعطيني هذه النعمة؟ الله ذاته. وهي نعمة تعلِّمنا العيش »في اتِّفاق الرأي« (آ5). ويتمنّى الرسول لكنيسة رومة ومؤمنيها: »فليغمركم إله الرجاء بالفرح والسلام والإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بقدرة الروح القدس« (آ15).

دور كبير يلعبه المؤمنون في هذا العالم، الذي انتظرته جماعةُ تسالونيكي مسهَّلاً بعد أن انتقلوا من الوثنيَّة إلى المسيح، ولكن ما اختبروه كان عكس ذلك. قال لهم الرسول: »عانيتُم كثيرًا« (1 تس 1: 6). غير أنَّ هذا لا يمنعهم من قبول »كلام الله بفرح.« أصاب أهل تسالونيكي في »عالمهم« ما أصاب إخوتهم في اليهوديَّة من اضطهاد (1 تس 2: 14ي). ولكن ما شجَّعهم كان كلام الله الذي عمل فيهم. فعلَّمهم »الثبات« ودعاهم إلى عدم التراجع لئلاّ يشابهوا العبرانيّين في البرِّيَّة. أمام أوَّل صعوبة، طلبوا أن يعودوا إلى مصر، ولو عبيدًا، فهناك الخيرات الكثيرة. أمّا في البرِّيَّة، فلا ماء ولا طعام سوى هذا المنّ الذي عافت منه نفوسهم. سوى الحليب ومشتقّاته التي هي طعام البدو. وكان بإمكان أهل تسالونيكي أن يتهرَّبوا من تعليم الرسول، بحيث يعيشون في راحة. ولكن هل جاء المسيح على الأرض لكي يلقي سلامًا، هدوءً، راحة، طمأنينة؟ كلاّ. بل »جاء يُلقي على الأرض نارًا وهو ينتظر من هذه النار أن تشتعل« (لو 12: 49).

لهذا، دعا بولس مؤمني رومة أن يكونوا »فرحين في الرجاء« (رو 12: 12). فبدون رجاء لا مكان لسرور ولا لفرح. وإذا كان الله يطلب ممَّن يعطي بعض ماله أن يعطيَه بفرح (2 كو 9: 7: المعطي الفرحان)، فماذا لا يطلب ممَّن يعطي حياته؟ ذاك كان موقف الرسل الذين نالوا الاضطهاد والجلد. أخبرنا لوقا في سفر الأعمال: »فخرج الرسل من المجلس فرحين، لأنَّ الله وجدهم أهلاً لقبول الإهانة من أجل اسم يسوع« (أع 5: 41). فهل خافوا؟ كلاّ. هل تراجعوا، توقَّفوا؟ كلاّ. بل هم عادوا »يعلِّمون كلَّ يوم في الهيكل وفي البيوت، ويبشِّرون بأنَّ يسوع هو المسيح« (آ42).

لولا الرجاء الذي يعمر في داخلكم، لما كانوا ثبتوا في الرسالة. هنا نسمع بولس يحدِّثنا عن القيامة التي ينتظر، ويدعو الجماعة إلى الانتظار. فإذا كان لا رجاء »لماذا نتعرَّض نحن للخطر كلَّ حين؟« (1 كو 15: 30). ويتحدَّث عن نفسه: »أنا أذوق الموت كلَّ يوم« (آ31). وأخبرنا كيف هُدِّد بأن يصارع الوحوش. وأنهى كلامه: »إذا كان الأموات لا يقومون، فلنقل مع القائلين: تعالوا نأكل ونشرب، لأنَّنا غدًا نموت« (آ32). حين يغيب الرجاء، ينغلق الإنسان على الأبديَّة ويحصر نفسه في هذا العالم يعبُّ فيه من الملذّات كلَّ ما يستطيع. ولكن بولس هو ابن الرجاء، فيعلن هو (أو: تلاميذه) في بداية الرسالة إلى تيموتاوس: »من بولس رسول المسيح يسوع بأمر الله مخلِّصنا، والمسيح يسوع رجائنا« (1 تم 1: 1).

أجل، إذا كان رجاؤنا في هذا العالم فقط، فنحن أشقى الناس جميعًا (1 كو 15: 19). حدَّثنا المؤمنين عن القيامة، »وما من قيامة«، كما يقول أولئك الذين ابتعدوا عن التقوى. »تبشيرنا باطل، إيمانكم باطل، بل نكون شهود زور على الله« (آ14). مثل هذا القول كفرٌ وتجديف. وكأنَّ بولس ندم لأنَّه أورده حين استخلص نتائج عدم قيامة يسوع المسيح. ولكنَّه انتفض فقال: »لكنَّ الحقيقة هي أنَّ المسيح قام« (آ20). وهذا يعني أنَّ أساس الرجاء حاضر هنا، وما يقوله »الرافضون« يقع عليهم في النهاية، وحين يستيقظون يكون فات الأوان. في هذا المناخ، نقرأ بداية الرسالة إلى تيطس: »من بولس عبد الله... على رجاء الحياة الأبديَّة التي وعد بها الله الصادقُ منذ الأزل« (تي 1: 1-2). أجل، الله وعد ونحن ننتظر تحقيق مواعيده. وماذا ننتظر؟ »اليوم المبارك الذي نرجوه، يومَ ظهور مجد إلهنا العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح« (تي 2: 13). وماذا ننتظر؟ »أن نصير ورثة بحسب رجاء الحياة الأبديَّة« (تي 3: 7).

  #155888  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:15 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




مواعيد الله

وهكذا فتحَنا الله على مواعيده. فإذا كان الرجاء هو الانتظار الأكيد للسعادة الآتية، كما يقول القدّيس توما في الخلاصة اللاهوتيَّة، فنحن لا نفهم الرجاء في الإطار اللاهوتيّ إلاَّ في العودة إلى مواعيد الله التي تحتلُّ هنا مكانة مميَّزة. كان العالم الوثنيّ ينظر إلى الزمن على أنَّه دائرة تعود فيها السنون إلى حيث انطلقت. أمّا الكتاب المقدَّس فينظر إلى الزمن على أنَّه خطٌّ مرتَّب في التاريخ، وهو تاريخ يتجلّى فيه الله على أنَّه سيِّد المستقبل وسيِّد البشريَّة كلِّها. واسم »يهوه« نفسه كما كُشف لموسى (خر 3: 14) يؤكِّد الزمن الآتي: الله فعل وهو يفعل. أنا هو اليوم وغدًا كما كنتُ في الماضي.

هنا المعنى الأصليّ للوعد: يتكلَّم الله وما يقوله يُجريه، وما يعدُ به إنسانًا من الناس يُنيله ما وعد به. تلك كانت خبرة إبراهيم وسارة. قال الربّ: »سأرجع إليك في هذا الوقت من السنة المقبلة ويكون لسارة امرأتك ابن« (تك 18: 10). أمرٌ لا يصدَّق: إبراهيم كبير السنّ، وسارة خصوصًا »امتنع أن تكون لها عادة كما للنساء« (آ11). هذا غير معقول! لهذا ضحكت سارة. أمّا الربُّ فوعد ووفى: »فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته، في الوقت الذي تكلَّم الله عنه« (تك 21: 2). وكان الكتاب قال: »وافتقد الربُّ سارة كما قال، وفعل كما وعد« (آ1). ففي الوعد التزام. أترى الله لا يفي بوعوده؟ بل هو الإله الثابت، الأمين.

وهكذا يكون الوعد إحدى الكلمات المفاتيح في لغة الحبّ. فحين يَعد الله، فهو يُلزم في الوقت عينه قدرته وأمانته، ويؤكِّد أنَّ المستقبل في يده، كما يؤكِّد صدق كلامه. هذا ما يحرِّك عندنا تعلُّق القلب وسخاء الإيمان. وبالطريقة التي بها الله يعد وباليقين الذي يملك بأنَّه لا يخيِّب الآمال، فهو يكشف أنَّه العظيم والعظيم وحده. قال سفر العدد: »ليس الله بإنسان فيكذب. ولا كبني البشر فيندم. أتراه يقول ولا يفعل، أو يتكلَّم ولا يقيِّم كلامه؟« (23: 19). فحين يعد الله، فهذا يعني أنَّه سبق وأعطى. وخصوصًا أعطى إيمانًا يعرف الانتظار ويتأكَّد أنَّ الله هو الأمين الذي لا يمكن أن ينكر نفسه (2 تم 2: 13).

وبولس حين اهتمَّ بأن يبيِّن أنَّ الإيمان هو أساس الإيمان المسيحيّ، دُفع لكي يُبيِّن أن جوهر الكتب المقدَّسة ومخطَّط الله يقوم في وعدٍ وعدَ به إبراهيم وأتمَّه في يسوع المسيح.

هنا نقرأ الرسالة إلى غلاطية. فالغلاطيّون الذين بشَّرهم الرسول وعلَّمهم الحرِّيَّة في المسيح، عادوا إلى العالم اليهوديّ، يمارسون شعائره. فجاء كلام بولس قاسيًا: »أيُّها الغلاطيّون الأغبياء« (غل 3: 1). بل هم تحت اللعنة لأنَّهم »يتَّكلون على العمل بأحكام الشريعة« (غل 3: 10). ويطرح السؤال: لمن أعطيَت المواعيد؟ لأهل الإيمان أم لأهل الشريعة؟ والجواب واضح: »أهل الإيمان هم أبناء إبراهيم الحقيقيّون« (آ6). وبما أنَّ إبراهيم برَّره الله لإيمانه، فنحن أيضًا »ننال بالإيمان الروح الموعود به« (آ14).

ويواصل الرسول برهانه للغلاطيّين، فيأخذ »مثلاً بشريٌّا«: من يقدر أن يبدِّل وصيَّة إنسان أعلنها قبل موته؟ والجواب لا أحد. وبالأحرى الله: وعد إبراهيم، فمَن يقدر أن يلغي وعد الله أو يبدِّله. لا أحد. حتّى ولا الشريعة التي »لا تقدر أن تنقض عهدًا أثبته الله، فتجعل الوعدَ باطلاً« (آ17).

وبماذا وعدنا الله؟ بالميراث. نحن أبناء مع الابن، وورثة معه على ما قال الرسول في الرسالة إلى رومة: »وهذا الروح يشهد مع أرواحنا أنَّنا أبناء الله. وما دُمنا أبناء الله، فنحن ورثة: ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث، نشاركه في آلامه لنشاركه أيضًا في مجده« (رو 8: 16-17).

فما الذي يحرمنا من هذا الميراث؟ إذا وُجد هذا الحرمان، فهذا يعني أنَّ وعد الله ليس بوعد (غل 3: 18). معاذ الله من هذا الكلام! وتأتي المقابلة بين هاجر وسارة من جهة، وبين إسحق وإسماعيل من جهة ثانية. إذا نحن وُلدنا »بحسب الجسد« (أو: اللحم والدم)، فنحن عبيد، لا أحرار. وبالتالي لسنا أبناء. أمّا الذي وُلد بحسب الروح، فنحن »أبناء الحرَّة« وقد وُلدنا »بفضل وعد الله« (غل 4: 23). ويعلن الرسول بعد أن يورد النصَّ الإشعيائيّ: »فأنتم، يا إخوتي، أبناء الوعد مثل إسحق« (آ28).

مواعيد الله نتعرَّف إليها منذ العهد القديم. وعد بأرض وبنسل. وتواصلت مواعيدُه مع موسى وخصوصًا مع داود بالنسبة إلى الملكيَّة التي امتدَّت مع سليمان بحيث إنَّ الشعب »يثبت في مكانه فلا يتزعزع من بعد« (2 صم 7: 10). ووعد الربُّ بالخلاص في النهاية مع ذاك »الأب الأبديّ ورئيس السلام« الذي »سلطانه يزداد قوَّة، ومملكته في سلام دائم... غيرة الربِّ تعمل ذلك من الآن وإلى الأبد« (إش 9: 6).

مواعيد أُعطيت. فأوجزها القدّيس بطرس في عظته الأولى يوم العنصرة: »الوعدُ لكم ولأولادكم ولجميع البعيدين، بقدر ما يدعو منهم الربُّ إلهنا« (أع 2: 39). ذاك ما جعله لوقا، تلميذ بولس، في أوَّل خطبة توجز مشروع الكنيسة في انطلاقتها. وجاء الرسول يُفهمنا أنَّ الجميع يدخلون في هذا المخطَّط الإلهيّ. قال للوثنيّين: »في الماضي، كنتم بعيدين عن رعيَّة إسرائيل، غرباء عن عهود الله ووعده، لا رجاء لكم ولا إله في هذا العالم. أمّا الآن...« (أف 2: 12-13). الذين لم يعرفوا الرجاء عرفوا الرجاء بيسوع المسيح الذي تجسَّد في »ملء الزمن« (غل 4: 4)، الذين لم يعرفوا وعد الله بأن »يجمع في المسيح كلَّ شيء في السماوات وفي الأرض« (أف 1: 10)، عرفوا الآن أنَّ هذا الوعد وصل إليهم وإلى أبنائهم، سواء كانوا بعيدين عن أورشليم أو كانوا قريبين. فالجميع صاروا شركاء في ميراث الله، وأعضاء في جسد واحد. »ولهم نصيب في الوعد الذي وعده الله« (أف 3: 6).

وحين تفيض علينا النعمة في المسيح يسوع ونصير أغنياء في كلِّ شيء بحيث لا تعوزنا موهبة من المواهب (1 كو 1: 4-7)، لا يبقى لنا سوى أن ننتظر »ظهور ربِّنا يسوع المسيح... الذي يحفظنا ثابتين إلى النهاية« (آ7-8). أجل، القوَّة التي لا تأتي من البشر، بل من الله، تجعلنا نهتف مع الرسول: »إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟« (رو 8: 31). ذاك هو أساس رجائنا. والربُّ وهب لنا ما وهب. ويواصل الرسول: »الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت، كيف لا يهبُ لنا معه كلَّ شيء؟« (آ32). عندئذٍ »من يقدر أن يفصلنا عن المسيح؟« (آ35). فمعه ننتصر كلَّ الانتصار حتّى في قلب الشدائد (آ37).


  #155889  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:17 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




الرجاء المرتبط بالمحبَّة

إذا كان الرجاء نظرة إلى المستقبل، فمن يؤكِّد لنا هذا المستقبل؟ وإلى ماذا أو إلى من نستند؟ أما يكون الرجاء سرابًا نتكمَّش به لأنَّ لا سبيل لنا إلى غيره؟ إذا كان الربُّ حوَّل سراب البرِّيَّة ماء، من أجل شعب البرِّيَّة، فهل يحوِّل برَكَته سرابًا بحيث يصبح الفردوس شوكًا وقطربًا؟ حاشا. فنحن نعلن مع الرسول: »رجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا« (رو 5: 6). ومتى فعل ذلك؟ أحين كنّا أبرارًا؟ كلاّ. بل حين كنّا »ضعفاء«، »خاطئين« أظهر الله محبَّته لنا »بأنَّ المسيح مات من أجلنا« (آ8).

رجاؤنا قويٌّ لأنَّه يستند إلى محبَّة الله، الذي أحبَّنا قبل أن نحبَّه. قال يوحنّا في رسالته الأولى: »نحن ما أحببنا الله (وسبقناه حين أظهرنا محبَّتنا له) بل هو الذي أحبَّنا، وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا« (4: 10). الله أحبَّنا قبل إنشاء العالم، اختارنا (قبل أن نعرف أن نختار) »لنكون عنده قدّيسين بلا لوم في المحبَّة« (أف 1: 4). هل يمكن أن يتخيَّل بشرٌ ما أعدَّه الله لأحبّائه؟ لا يمكن. ومع ذلك هو الحقيقة. فهتف الرسول: »ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر ما أعدَّه الله من أجل أحبّائه« (1 كو 2: 9). وأنتم أحبّاؤه حين تعملون بمشيئته. حين تتجاوبون معه، فتردُّون على الحبِّ بالحبِّ.

فماذا يفعل الله من أجل الذين يحبُّونه؟ يعدهم بالمجد الآتي، يقول لهم: »آلام هذه الدنيا لا توازي المجد الذي ينتظرنا« (رو 8: 18). بل يرينا أنَّ الخليقة كلَّها »تنتظر بفارغ الصبر« (آ19). ونحن ماذا نفعل؟ هل نشبه المؤمنين في زمن إشعيا، الذين قال النبيّ فيهم: »الثورُ يعرف مقتنيه، والحمار معلف صاحبه، أمّا بنو إسرائيل فلا يعرفون، شعبي لا يفهم شيئًا« (إش 1: 3).

نرفض الرجاء. نتعلَّق بما يُرى وننسى ما لا يُرى. مع أنَّ ما يُرى هو لزمان وما لا يُرى هو إلى الأبد. نرفض الاتِّكال على الله ونحسب أنَّنا نستطيع بمقدورنا أن نفعل. نرفض الباب الضيِّق والطريق الصاعدة. هكذا نكون لا نعرف ولا نفهم. وننسى خصوصًا ما الذي فعله الله ويفعله كلَّ يوم من أجلنا. هو مشروح محبَّة يغرز جذوره في حياة كلِّ واحد منّا، بل في التاريخ كلِّه. هو »سر« يريد أن يُدخلنا الله فيه. فهل نستعدُّ أن نرى؟ هل نستعدُّ أن نسمع؟ هذا يفترض الإيمان العامل بالمحبَّة.

قال الرسول: »ونحن نعلم أنَّ الله يعمل سويَّة مع الذين يحبُّونه لخيرهم في كلِّ شيء أولئك الذين دعاه حسب قصده. فالذي سبق فاختارهم، سبق فعيَّنهم ليكونوا على مثال صورة ابنه حتّى يكون الابنُ بكرًا لإخوة كثيرين. وهؤلاء الذين سبق فعيَّنهم، دعاهم أيضًا، والذين دعاهم برَّرهم أيضًا، والذين برَّرهم مجدَّهم أيضًا« (رو 8: 28-30).

»سبق«. يرد الفعل أكثر من مرَّة. الله هو السبّاق. كلُّ مبادرة هي منه، ولا يكون لنا سوى الجواب. وضع أمامنا السعادة والشقاء ونحن نختار. جعل الخير والشرّ أمام الإنسان، وقام بالخطوة الأولى فجعله في الجنَّة. فلماذا يسبقنا وهو لم يعرف شيئًا عنّا؟ لأنَّه جعل رجاءه فينا. كلام هائل. الله اتَّكل علينا. جعل ثقته فينا ولهذا خلقنا. فالمحبُّون وحدهم يعرفون أنَّ كلَّ شيء هو لخيرهم. دعاهم كما يدعو الأب أبناءه: أنتَ، اذهب إلى كرمي. إن أردت أن تتبعني، تمشي ورائي. والرسول يدعونا: »تشبَّهوا بالله كالأبناء الأحبّاء« (أف 5: 1).

ما نحن توجَّهنا إليه أوَّلاً، بل هو توجَّه. ما نحن دعوناه، بل هو دعانا، اختارنا على ما قال: »ما أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأرسلتكم« (يو 15: 16). والنعمة الكبرى بعد أن »تشوَّهت« صورة الله بفعل الخطيئة، هو أنَّه »عيَّننا«، »أعدَّنا« لكي نكون على صورة ابنه. تلك هي المحبَّة العظمى. لم يعد الابنُ الابنَ الوحيد، بل صرنا كلُّنا أبناءه، ويسوع المسيح صار أخًا لإخوة وأخوات عديدين.

وتتواصل السلسلة: من الدعوة، إلى التبرير، أي جعلنا أبرارًا قدّامه، خلَّصنا من جديد »كما من الماء والروح« لكي نعيش بحسب إرادته. أخذ منّا قلب الحجر وأحلَّ محلَّه قلبًا من لحم. وفي النهاية »مجَّدنا«. إلى هذا المستوى وصلت محبَّة الله لنا. نحن نعرف أنَّ المجد هو لله وحده. ولكن لمّا صرنا مع الابن دُعينا إلى المجد على مثال الابن. ويقول لنا المسيح: »تجلسون على اثني عشر كرسيٌّا وتدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر«. ويقول لنا الرسول: »أنتم ستدينون العالم« (1 كو 6: 2). ويواصل، ويا للعظمة، فيقول للكورنثيّين الذين لم يفترقوا عنّا في شيء: »أما تعرفون أنَّنا سندين الملائكة؟« (آ3).

تلك هي الدرجة التي رفعنا الله إليها. وكلُّ هذا محبَّة لنا. فإلى هذه المحبَّة يستند رجاؤنا، ونخشى بعد ذلك الفشل والخيبة، بل يخاف الكثير منّا، مع أنَّ الله قال: لا أتركك ولا أرخي بك الأيدي. وقال أيضًا: »الربُّ لا يتخلّى عن أتقيائه، بل إلى الأبد يحرسهم« (مز 23: 28). بل هو يشبِّه الله بأمِّ وأب. هذان يمكن أن يتخلَّيا عن أولادهما. هي خبرة قاسية على مستوى البشر، لا على مستوى الله. ونحاول أن نجعلها على مستوى الله، وكأنَّ الله إنسان من البشر! ولكنه يجتذبنا بحبال الرحمة وروابط المحبَّة ويهتمُّ بكلِّ واحد منّا كما الأمُّ تهتمُّ بابنها الوحيد. وهكذا نحسُّ مع الله أنَّنا موضوع اهتمامه. قد يقول المؤمن، كما قالت أورشليم، »تركني الربّ، نسيَني«. ما هذا الكلام الذي يجرح الله في الصميم، لأنَّه يرى أولاده يبتعدون عنه، يغيبون في اليأس، يفقدون كلَّ شيء حتّى الحياة. لهذا فهو يجيبنا بلسان النبيّ: »أتنسى المرأة رضيعها، ألا ترحم ثمرة بطنها (وهو كان في رحمها)؟« هذا مستحيل في عالمنا. ويواصل الربُّ كلامه: »لكن لو أنَّها نسيَتْ فأنا لا أنساك... وها أنا على كفِّي رسمتك« (إش 49: 14-16). فاسمُك، يا ابني، يا ابنتي، لا يزول، ما زال كفّي معي.

»الجبال تزول والتلال تتزعزع وأمّا رأفتي فلا تزول« (إش 54: 10). إلى هذا الإله يستند بولس في سجنه. »أنت تعرف أنَّ جميع الذين في آسية تخلُّوا عنّي« (2 تم 1: 15). أين يضع رجاءه؟ في الربّ. وهكذا يبقى ثابتًا حتّى النهاية كما يجعل نفسه مثالاً لتلميذه. قال: »الله ما أعطانا روح الخوف، بل روح القوَّة والمحبَّة والفطنة« (2 تم 1: 7). ويواصل كلامه إلى تلميذه الحبيب: »أمّا أنت فتبعت تعليمي وسيرتي ومقاصدي وإيماني وصبري ومحبَّتي وثباتي واحتمالي الاضطهاد والعذاب« (2 تم 3: 10-11).

وفي النهاية، يهتف بولس من سجنه في رومة، الذي كان قاسيًا جدٌّا، وسوف يقوده إلى الموت قتلاً بالسيف على طريق أوستيا، القريبة من رومة. فيقول »أمَّا أنا فذبيحة يراق دمها، وساعة رحيلي اقتربت. جاهدتُ الجهاد الحسن وأتممتُ شوطي وحافظتُ على الإيمان. والآنَ ينتظرني إكليلُ البرِّ الذي سيكافئني به الربُّ الديّان العادل في ذلك اليوم، لا وحدي، بل جميع الذين يشتاقون ظهوره« (2 تم 4: 6-8). انتظر الرسول، فانتظره »إكليل البر«. اشتاق إلى لقاء الربِّ فلبّى الربُّ اشتياقه وفتح له يديه كما الأمُّ تستقبل طفلها الآتي إليها. كان المسيح ذبيحة على الصليب، والرسول هو ذبيحة أيضًا يدفعه الرجاء. فلولا هذا الرجاء ما خطا الرسول خطوة، ولا هو انبطح إلى الأمام، ناسيًا ما وراءه، من أجل »الفوز بالجائزة التي هي دعوة الله« (فل 3: 14). والسرُّ الذي دفع بولس، قاله هو: »أنا عارفٌ على من اتَّكلت، وأنا واثق بأنَّه قادر على أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم« (2 تم 2: 12).
  #155890  
قديم 29 - 03 - 2024, 12:18 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
Mary Naeem Mary Naeem غير متواجد حالياً
† Admin Woman †
 
تاريخ التسجيل: May 2012
الدولة: Egypt
المشاركات: 1,215,894

وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة




مسيرة رائعة سرناها مع بولس الرسول


ترك العالمَ اليهوديّ، كما سبق إبراهيم وترك وراءه أرض أور وحاران. مضى إبراهيم وهو لا يعرف إلى أين يقوده الله. وكذلك بولس الذي عرف الشيء الوحيد بعد خبرة دمشق: »سوف أعرِّفه كم سوف يتألَّم من أجلي.« من هو أبو بولس ومن هي أمُّه؟ إخوته، أخواته؟ صار له الربُّ الأب والأمَّ والأخ والأخت والزوج والأولاد. جعل كلَّ رجائه في هذا الإله الذي استسلم له منذ النداء الأوَّل، نداء الصليب الذي يقود إلى القيامة. أتُرى خاب أمل بولس؟ كلاّ. بل لبث ثابتًا حتّى النهاية. وُعد بالإكليل ونال الإكليل. واكتشف بشكل خاصّ محبَّة الله له. فمع أنَّه كان مُضطهدًا ومجدِّفًا (1 تم 1: 13). نال الرحمة. محبَّة الله غمرته فاستند إلى هذه المحبَّة وانطلق في حياته وفي رسالته. وما ترك لنا من كتابات تدفعنا اليوم إلى الرجاء »فنتمسَّك بهذه الثقة (التي وُضعت فينا)، ونفتخر بالرجاء« (عب 3: 6).
موضوع مغلق


الانتقال السريع


الساعة الآن 10:00 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024